بقلم : محمد غزلان
كان صعود عبد الناصر إلى سدة الحكم بشكل نهائي منذ نوفمبر 1954 هو أكبر ضمانة لعدم صعود الإخوان والتيارات العميلة للانجليز إليه، ومن ثم اُبتدئ صراع طويل معه لاسقاطه وحكمه، صراع أحد طرفيه : الصهاينة والإخوان والأمريكان وفلول الطبقات الاجتماعية التي أنهت الثورة سيطرتها على الحياة السياسية والاجتماعية في مصر مضافا إليهم صف طويل من القوادين واللحاسين وأصحاب الأجندات المدفوعة الأجر الذين مايزالون يعملون في مصر إلى اليوم تحت مانشتات تم تطويرها لتدمير ما لم يتم تدميره بعد .
بينما كان عبد الناصر عند الطرف الآخر يقف وحيدا كبطل تراجيدي؛ يجتهد أن يصعد بشعوب تم تخريبها واختراقها، شعوب أدمنت الكسل والتواكل واجترار الغيبيات وبقايا ماض قديم، إلى روح عبد الناصر العظيم في ذكرى وفاته في 29 سبتمبر 1970 أهدي هذه القصة ، قصة حدثت بالفعل :
عبد الله الجن
كان العم عبدالله الشهير بالجن شابا فلاحا فقيرا معدما ( ليس معدما تماما لأنه كان يمتلك بقرة وزوجة وطفلين) اشتهر في مطلع أيامه بقدرته الخارقة على العوم بعرض بحر يوسف جيئة وذهابا، وبأنه أكبر طليِّع نخل في العور مركز سمالوط، ولو إن اللجنة الأوليمبية قررت إدراج طلوع النخل ضمن ألالعاب الأوليمبية لحصد لمصر عدة ميداليات ذهبية ) المهم أن صاحبكم استأجر فدانا للزراعة من أحد أعيان البلد، وظل يزرعه سنتين، ثم صدرت قوانين تنظم عملية الإجارة الزراعية مؤداها ( كل من زرع أرضا لثلاث سنوات متتالية هادئة ومستقرة أصبح مستأجرها الدائم، وليس لصاحب الأرض أن يعترض) بتعبير الفلاحين: أصبح راكبا الأرض. ـ
هذا ما جعل صاحب الفدان يبلغ عمي أنه لغى الإجارة، ولما كانت الأرض مزروعة والمحصول أوشك على النضج،استمهله حتى يجني الزرعة، رفض الرجل، ولجأ إلى نفوذه، ودعا مأمور القسم ومد له مأدبة حافلة، ومن تحت المأدبة بهزه بهزة كبيرة، كل ذلك جعل الرجل يرى الحق ساطعا، ويغضب غضبة مضرية اهتزت لها المديرية
في صباح اليوم التالي، كان من الممكن للفلاحين الساعين لغيطانهم أن يروا عمي والجند يجرجرونه للمركز ويوسعونه ضربا وركلا، حتى وقفوا به أمام المأمور، الذي قال له:
ـ اسمع يا ولد: قبل شمس النهار ما تغيب، تجمع خرقاتك وتسيب الأرض لأصحابها، فاهم ؟
أجاب عبدالله في حصافة
ـ طبعا فاهم، يا جناب سعادة القومندان المأمور.
ولما خرج طار إلى بيته، لبس جلبابه التيل الوحيد غير المرقوع، ودس رجليه في جزمة جيش معدلة موديل سنة 1959، ويا أولاد: أين سكة القطار؟
هبط القاهرة عصرا:
ـ أين أخي يا مرأة أخي ؟
قالت أمي من بين أضراسها:
ـ أخوك نائما.
عيط عبد الله كالجحش:
ـ أخي؛ حبيبي.
قام أبي مفزوعا يفرك عينيه، تثاءب وهو يرى الجن واقفا يدير عينيه اللوزيتين في أرجاء المكان، وما إن رأي عبدالله أخاه واقفا حتى نط في حضنه وهات يا عياط.
ربت أبي على كتفه، وراح يغتسل لينفض عنه النوم، وقعد بعدها يشفط هو وأخوه كوبين شاي، سأله:
ـ خيرا إن شاء الله ؟
ـ خير من أين، أنا لازم أقابل جمال عبد الناصر.
للحظة لم يفهم أبي العبارة، وفي اللحظة التالية جاءت كل بنات الدهشة وتراقصن أمامه في ميوعة ساخرة، الأمر الذي جعله يظل يضحك دون توقف؛ وعبد الله ينظر إليه مندهشا، لكنه استطاع بعد أخذ وعطاء مع نفسه أن يوقف الضحك، قال:
ـ تقابل عبد الناصر؟ يا أخي إرحم، استهدى بالله،وإحك لي الحكاية من البداية.
ـ الحكاية يا سيدي…………..
قام أبي وأحضر ورقة من ورق العرائض وقلم بسط ومحبرة شيني، وراح يكتب بأسلوبه الرائع وخطه الأكثر روعة: فخامة السيد / رئيس الجمهورية العربية المتحدة……..
ثم طوى العريضة ووضعها في مظروف، وحط المظروف في جيب سترته المعلقة على الكرسي، وقال لعبدالله:
ـ باكر بإذن الله أبعثها بالبوسطة لمظالم قصر عابدين.
ـ بوسطة؟ على ما توصل يكون الحمار مات، أقول لك المأمور تقول لي بوسطة.
ـ خلاص يا عم، باكر نروح نودعها مناولة في مظالم قصر عابدين.
ـ لكن…..
ـ ما باليد حيلة يا عبدالله.
قعد عبد الله الجن على الأرض مكروبا ومن شدة كربه دخن علبة سجائر أبي بأكملها، ونتف وبر الكليم الصوف، وأمي تنظر إليه مغتاظة، قال وهو غير عابئ بنظراتها :
ـ قل لي يا أخي، أيسكن عبد الناصر قريبا من هنا ؟
ـ أيه؟ أتنتوي زيارته في البيت؟
ـ لا يا أخي، أقصد مكان عمله.
ـ عمله في قصر عابدين.
ـ وقصرعابدين كيف يصل الواحد منا إليه ؟
ـ يركب قطارا من عين شمس وينزل في محطة باب الحديد و………………….
ـ ومتى يكون عبد الناصر في الشغل؟
ـ في التاسعة صباحا، كفاية دماغي وجعني، قم تحمم ونام، وربك يفرجها.
في الفجر إلا قليلا، نهض عبدالله الجن من نومه، ولبس الجلباب الدمور، وغسل وجهه، ومشط شعره بأصابعه، ومشي إلى حجرة أخيه وسحب العريضة، وتسلل خارجا من البيت ليبدأ الزحف المقدس، نزل في باب الحديد وشق شارع الجمهورية وعدى جامع كخيا، ومشي حتى وصل قصر عابدين، وقف بعيدا يشيل رجل ويحط رجل، حتى الساعة التاسعة، رأى السيارة الشيفورليه السوداء قادمة، وسمع البروجي والحرس الجمهوري يصطف، وهوبه فوق، جري ورمى نفسه أمام السيارة، في اللحظة كان الحرس شايله وشل حركته، وهو يصيح ويلوح بالعريضة:
ـ يا عبد الناصر يا عبد الناصر، الحقني يا ريس.
نزل عبد الناصر من السيارة، وأشار لهم:
ـ سيبوه.
تركه الحرس، قال عبد الناصر:
ـ تعال ..
مشى خلفه، وصعد معه إلى مكتبه، قال له عبد الناصر:
ـ اقعد.
قال عبد الله من بين أنفاسه المبهورة:
ـ أقعد؟! كيف ؟
ـ مثلما أنا قاعد..
قعد عبد الله بطرف مقعدته، سأله ناصر:
ـ لماذا ترتعش ؟
ـ لأن هذه أول مرة أراك عن قرب هكذا.
ـ طيب، لكنها أول مرة لي أراك عن قرب ولا أرتعش، قل لي الموضوع.
مد عبد الله يده بالعريضة، قرأها ناصر في صمت، ثم سأل:
ـ من كتب لك العريضة ؟
ـ أخي.
ـ تناولت الإفطار ؟
ـ لا
ـ معك نقود لترجع إلى البلد ؟
ـ معي فلوس أرجع عين شمس عند أخي.
ضغط ناصر الجرس، دخل ضابط، أدى التحية، قال ناصر:
ـ خذ عبد الله، يفطر ويشرب شايا، بعدها توصله إلى محطة مصر، يركب ويرجع إلى البلد.
ـ تمام يا أفندم.
***
على محطة سمالوط وقفت تشريفة رسمية متراصة البنيان والصفوف كما يجب ان تكون التشريفات؛ أمامها وقف المأمور ونائبه ورئيس المباحث ومعاونه، بينما اصطف الجند من خلفهم، ووراءهم صاحب الأرض، ورجال الاتحاد القومي، وفرقة الموسيقي النحاسية لملجأ أيتام ( أبيسخرون القليني ) وما إن وقف القطار وظهرت أول فردة من الحذاء المعدل الذي ينتعله عبدالله حتى ضرب البروجي، وصاح المأمور:
ـ سلام سلاح
رفع الجند سلاحهم ودقوا دباشك بنادقهم، بينما عزفت الموسيقى النحاسية السلام الجمهوري، عندها هاج الناس وتزاحموا وزاطوا زياطا شديدا.
للحظات وقف عبدالله مندهشا، ولم يستطع عقله أن يحل شفرات الموقف، وعندما رأى المأمور مقبلا عليه، أصابه الذهول، تجمد في مكانه، وقال لنفسه:
ـ نهار أسود، تجريدة للقبض عليك يا ولد يا عبدالله.
أدار بصره كالنمس في أرجاء المحطة بحثا عن مهرب، فوجد نفسه محاصرا تماما، فكر أن يعود ليركب القطار وينزل في المركز التالي، لكنه قال لنفسه:
ـ الله غالب إثبت في مكانك يا عبدالله.
**
شد المأمور على يده، وطمأنه:
ـ المسألة خلصت على خير، ممكن تجنى المحصول في وقته، إياك تكون زعلانا مني.
ـ حاجات بسيطة، ربنا يبعد عنا الزعل.
وبينما كان يشرب الشاي في مكتب المأمور، سأله:
ـ لكن قل لي يا عبد الله، كيف قابلت الريس ؟
قال عبد الله متعاظما:
ـ أبدا، رحت عند القصر لغاية ما جاءت سيارة الرئيس، ناديت عليه، والرجل مشكورا والله، وما لك عليّ يمين، قام بالواجب، أفطرني وقدم لي كوبا من الشاي، وجعل سيارة توصلني إلى محطة مصر.
قام نائب المأمور، ثم استدار ووقف عند النافذة ليخفي ضحكه في كم قميصه.
نهض عبد الله مستأذنا:
ـ أفوتكم بعافية.
ـ مع السلامة.
ما إن خرج عبد الله، حتى دار نائب المأمور على عقبيه واندفع يضحك، بينما نظر إليه المأمور في غضب، وقال:
ـ شفت ابن……….منقول من الصديق جمال مقار
التعليقات