بقلم المهندس صلاح جنيدي رئيس هيئة الاوقاف الاسبق
مقدمة :
• منذ فجر التاريخ، كانت دور العبادة مركزًا روحيًا وحضاريًا للمجتمعات، حيث تعكس تصميماتها العقيدة الدينية السائدة في كل عصر . وتعد المعابد المصرية القديمة نقطة البداية لتطور العمارة الدينية، إذ وضعت الأسس التي امتدت عبر الزمن، وصولًا إلى المعابد اليهودية، ثم الكنائس المسيحية، وأخيرًا المساجد الإسلامية .. التي انتشرت في العالم أجمع .
• والمثير أن هذا التطور لم يقتصر على الرموز والوظائف الدينية فقط، بل امتد ليشمل التخطيط العمراني ذاته، بحيث نرى استمرار العناصر الأساسية في كل من هذه المنشآت، ولكن بصيغ متجددة تتماشى مع العقيدة الجديدة.
• رسالة التوحيد والتطور المستمر :
لطالما كان التوحيد هو الرسالة الأساسية التي حملها الأنبياء، منذ سيدنا إدريس الذي يُنسب إليه أنه أول من خط بالقلم وعلم الناس الحكمة، مرورًا بإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، إلى أن جاء الإسلام ليكون ختام الرسالات السماوية، كما قال الله تعالى:
> “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا” (المائدة: 3).
وكما توحدت الرسالات في مضمونها، فقد توحدت في تجلياتها العمرانية، حيث نرى أن التخطيط العام لدور العبادة ظل يحمل نفس التخطيط و البنية الأساسية .. مع اختلاف التفاصيل ، مما يعكس وحدة الفطرة البشرية في البحث عن الله والتقرب إليه.
—
1. المدخل: من البوابات الضخمة إلى المآذن والقباب
المعابد المصرية:
في المعابد الفرعونية، كان المدخل يتميز ببوابتين ضخمتين (صرحين) بينهما فجوة واسعة، تؤدي إلى الفناء الداخلي. أمام المدخل، كانت توضع مسلتان، تمثلان رموزًا للاتصال بين الأرض والسماء، وكأنهما دليلان للمؤمنين على الطريق إلى الحرم المقدس.
المعابد اليهودية والكنائس :
في المعابد اليهودية، استُبدلت المسلتان ببرجين ضخمين، كما في هيكل سليمان حيث نجد برجي ياكين وبوعز. ومع ظهور الكنائس، تطور هذا المفهوم ليأخذ شكل أبراج الأجراس التي وُضعت على جانبي المدخل، مثل كاتدرائية نوتردام في باريس.
المساجد الإسلامية :
عندما ظهر الإسلام، أخذت المئذنة مكان الأبراج، ولكن بوظيفة جديدة، وهي الدعوة للصلاة، وظل المدخل يحتفظ بعظمته من خلال القباب والمداخل الضخمة، كما نرى في المساجد الكبرى مثل مسجد السلطان أحمد في إسطنبول.
—
2. الفناء الداخلي (الصحن):
.. من المسلات إلى الصحن المفتوح :
المعابد المصرية
عند دخول المعبد المصري، يجد الزائر نفسه في صحن واسع مفتوح تحيط به الأعمدة، وهو المكان الذي كان مخصصًا للتجمعات الدينية الكبرى والصلوات العلنية.
المعابد اليهودية والكنائس :
في المعابد اليهودية، نجد ما يشبه الصحن في المساحة التي تسبق “قدس الأقداس”، حيث يجتمع المصلون. أما في الكنائس، فقد تحول إلى الناف (Nave)، وهو المساحة الكبرى حيث يجلس المصلون أثناء القداس.
المساجد الإسلامية :
احتفظت المساجد بهذا العنصر بشكله المفتوح، ليصبح الصحن الداخلي، وغالبًا ما كان يتوسطه فسقية للوضوء، كما في المسجد الأموي بدمشق، وهو ما يعكس استمرارية العنصر الفراغي ولكن بوظيفة جديدة.
—
• الشخشيخة :
نجد وسط فناء الصحن المعبد الفرعونى ان هناك بعض الأعمدة ترتفع عن باقى الأعمدة الأخرى و تحمل سقفا مرتفعات عن باقى السقف. و ذلك لإدخال النور لإضاءة الفناء ،، وقد تطورت هذه الفكرة فيما تلاها من دور للعبادة حتى وصلت للإسلام .. و سميت بالشخشيخة !!
3. قدس الأقداس: من الحجرة المقدسة إلى المحراب
المعابد المصرية
أقدس منطقة في المعبد المصري كانت قدس الأقداس، وهي غرفة صغيرة في عمق المعبد، حيث توضع تماثيل الآلهة ولا يسمح بدخولها إلا للكهنة والفرعون.
المعابد اليهودية والكنائس :
في هيكل سليمان، نجد نفس المفهوم في “قدس الأقداس”، حيث كانت توضع تابوت العهد، وكان يحرم دخول غير الكهنة إليه. ومع تطور الكنائس، أصبح هذا المفهوم ممثلًا في “السيكريستي” (Sacristy)، وهي الغرفة التي يُحفظ فيها الأواني المقدسة.
المساجد الإسلامية :
أخذ الإسلام هذا المفهوم ولكن بلمسة توحيدية، حيث تحول قدس الأقداس إلى “المحراب”، وهو تجويف في جدار القبلة يشير إلى اتجاه الصلاة، ولكنه خالٍ من التماثيل، مما يعكس التوحيد الخالص لله.
—
4. الغرف الجانبية: من غرف الكهنة إلى غرف الأئمة
المعابد المصرية
كانت الغرف الجانبية للمعبد تُستخدم لتخزين أدوات الطقوس الدينية، وإقامة الكهنة.
المعابد اليهودية والكنائس
في المعابد اليهودية، استُخدمت بعض الغرف للدارسين والحاخامات، بينما في الكنائس، أصبحت هذه الغرف مخصصة للكهنة ومساعديهم.
المساجد الإسلامية
انتقلت الفكرة إلى المساجد في صورة غرف الأئمة والمؤذنين، حيث يتم حفظ المخطوطات الدينية، بالإضافة إلى غرف الضيافة والمجالس العلمية.
—
5. البحيرة المقدسة: من التطهير إلى الميضأة
المعابد المصرية
كان يوجد في كل معبد مصري بحيرة مقدسة، تُستخدم لتطهير الكهنة قبل دخول المعبد.
المعابد اليهودية والكنائس
في اليهودية، نجد الميكفاه (Mikveh)، وهو حوض يستخدم للتطهر الطقسي. أما في الكنائس المسيحية، فقد أصبحت المعمودية جزءًا أساسيًا من الطقوس الدينية.
المساجد الإسلامية
استمرت هذه الفكرة في الإسلام ولكن بمنظور جديد، حيث تطورت إلى “الميضأة”، وهي حوض للوضوء يتوضأ منه المصلون قبل أداء الصلاة، مما يعكس استمرار فكرة الطهارة في أشكال معمارية مختلفة.
—
خاتمة: وحدة الرسالة وتنوع البناء
من المعابد المصرية إلى المساجد الإسلامية، نرى أن تطور العمارة الدينية لم يكن مجرد تغير في الأشكال، بل كان انعكاسًا لتطور العقائد نفسها، حيث احتفظت الأديان المختلفة بجوهر الفكرة الروحانية مع إعادة تفسيرها بما يتماشى مع تعاليمها.
لقد بدأت رسالة التوحيد مع سيدنا إدريس، واستمرت عبر العصور، تحملها الأنبياء إلى أن جاء الإسلام ليكملها، ويجعلها خاتمة الرسالات. وكما توحدت الرسالات في المضمون، توحدت في تجلياتها المعمارية، لتبقى دور العبادة شاهدًا على تطور الإنسان في سعيه نحو الله، وعلى استمرار الروح الإيمانية التي لم تنقطع منذ فجر التاريخ.
التعليقات