بقلم : د . محمد أبوالعلا
إن النفس البشرية لتحزن على فراق كل ماتحبه وتشتهيه من أموالٍ ومتاعٍ وزوجٍ وولد، وغير ذلك، ولأن الله تعالى جعل وجود الإنسان في الحياة الدنيا لعبادته فقد قال تعالى في محكم تنزيله : ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (56/ الطور)، فهو جل شأنه يريد للإنسان ألا ينشغل بالنعمة مهما عظمت عن المُنعم تقدست أسمائه وتعالت آلائه؛ لذلك نجد أن من تهذيب الحق للنفس البشرية قوله تعالى “لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” (23) الحديد.
فبداية الأدب يتمثل في الآية التي تسبقها “مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير”ٌ/ (22) الحديد) والمصيبة لا تكون بالشر فقط بل بالخير أيضاً؛ لأنها كل ما يصيب الإنسان- ولذا صدق قول الحق “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) الأنبياء، فالخير فيه ابتلاءٌ أيضاً، وإذا اعتبرنا الموت أعظم المصائب، فإن الله تعالى يخفف على عباده بالآية الكريمة مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير”؛ مبيناً الهدف من ذلك وهو ” لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ”؛ لأنه إذا كانت أفضل القيم هي تلك القيم الوسطية حسبما يقول فلاسفة الأخلاق، فإن قيمة الوسط تتمثل في الاعتدال والقصد في الحزن والفرح، لا ينبغي أن نندم على مافاتنا لأن الذي رزقنا به هو الله، وخزائنه مملؤة لا تنفد، كذلك يأمرنا ألا تفرح بما في يدك؛ لأن الإنسان ابن أغيار، تطرأ عليه الأحوال والظروف، فبديهي أنه اليوم بشبابه وغداً في هرمه ثم شيخوخته، أنه اليوم بعافيته وغداً ليس كذلك، أنه اليوم صاحب نفوذ وغداً ليس كذلك، لذلك كان أمره سبحانه وتعالى بالقصد في الفرح حفاظاً على عباده المؤمنين، لأنه يريد منك ألا تنشغل بالنعمة عن المنعم، وهنا علينا أن نتدارس معا قصة سيدنا سليمان قال تعالى :”وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35).(سورة ص) عندما عرضت عليه الخيل وصفونها كما قال القرطبي أي قيامها وبسطها لقوائمها، كأنها تؤدي استعراضاً أمامه، حتى ألهته عن وقت الصلاة، فماذا كان جوابه ؟! قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ” والمقصود بالخير هنا الخيل، ومنها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ” الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة” ، وقيل المال، حتى غابت الشمس، وقيل في معنى “َطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ” أنه عقرها، وقيل أنه مسح أرجلها وأعناقها، الحاصل أنه أدرك أنها شغلته كنعمةٍ عن المُنعم ولذا نجده في موضعٍ آخر مستغفرا “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ” فتدارك أمره بالأا تشغله النعم عن ذكر الله وعبادته؛ لذلك لابد أن نعلم أن توطين النفس هو منهج الاعتدال الذي يريده منّا الحق طقبًا لمنهاج قوله تعالى ” لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” وهو ماسماه الإمام علي زين العابدين رضي الله تعالى عنه بالزهد، فمابالنا وهو أول درجة من الدرجات التي تسبق الورع واليقين والرضا، فمتى نرتقي إلى هذه الدرجات ومازلنا لا نتجاوز أول درجة؟! فضلا عن كون بُغض الدنيا مطلوب، حتى قيل أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، ومتى تعلق الإنسان بالدنيا كره قضاء الله والعياذ بالله، وهو معنى التعلق بالنعمة ( نعمة الحياة) والاستغناء عن المنعم واهب الحياة.
اللهم اجعلنا ممن توكل عليك واستغنى بك، وزهد في الدنيا ورغب فيما عندك يا الله.
” أدب الإعتدال فى القرآن “
![](https://www.elbyan.com/wp-content/uploads/13427982_1121153241253769_8604280718029676040_n.jpg)