رباعيات الخيام 3
بقلم : د. محمد أبوالعلا
بعدما تكلم عمر الخيام عن الإقبال على الشهوات، قائلاً: اطفيء لظى القلب ببرد الشراب، فإنما الأيام مثل السحاب، وعيشنا طيف خيالٍ، فنل حظك منه قبل فوت الشباب. يبالغ في نزعته الشكية قائلاً” لبست ثوب العيش لم أستشر، وحِرت فيه بين شتى الفكر،
وسوف أنضو الثوب عني، ولم أدرك لماذا جئت أين المفر؟ كمن يقول ” جايين الدنيا مانعرف ليه ؟” فقد أوقعه حظه في الدنيا، لذلك عليه أن يحياها، بعد ذلك بدأت أم كلثوم تتغنى بأبياته التي صاغها في التصوف، لأن القصيدة تخص مرحلتين من مراحل حياة الشاعر، أولاهما مرحلة المجون والإقبال على الملذات كما ذكرنا، كأنه يقول” اليوم خمرٌ ونساء”، لكنه عندما يُقبل على خالقه يتوب إليه بأروع الأبيات التي قيلت في التوبة قائلاً: يامن يحار الفهم في قدرتك، وتطلب النفس حمى طاعتك، أسكرني الإثم ولكنني صحوت بالآمال في رحمتك” يبدأ توبته بالثناء على خالقه، و بيان عجز العقل عن إدراك قدرته، مُعترفاً بذنبه،
لكنه مع ذلك يطمع في رحمته، لأنه وحده غافر الذنب وقابل التوب، حتى أنه يُبرر توبته منطقياً كما سبق وبرر مجونه بصورةٍ عقلية، يبرر توبته أن الله يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يشرك به، وقد استمدها من الآية الكريمة ” إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيما”، ومن هذه الآية يقول الشاعر: إن لم أكن أخلصت في طاعتك؛ فإنني أطمع في رحمتك، وإنما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتك”، فلن يدخل أحدٌ الجنة بعمله، وإنما برحمةٍ من الله، ولذلك يقول” إن لم أكن أخلصت في طاعتك” معترفاً بتقصيره، وهي بداية مرحلة التوبة، التي وصل بعدها إلى مرحلة الحب الإلهي، متغزلاً في قدرة الخالق، مقراً بنعمه، قائلاً” تُخفي عن الناس سنا طلعتك، وكل مافي الكون من صنعتك، فأنت مجلاه وأنت الذي ترى بديع الصنع في آيتك” مفسراً احتجاب الحق عن الخلق، بل يؤكد قدرته، وإحاطته بكل شيء بقوله” إن تفصل القطرة من بحرها؛ ففي مداه منتهى أمرها، تقاربت ياربي ما بيننا مسافة البعد على قدرها”، ويختتم الشاعر القصيدة التي تغنت بها أم كلثوم بالأبيات: ياعالم الأسرار علم اليقين، يا كاشف الضر عن البائسين، يا قابل الأعذار عدنا إلى ظلك فاقبل توبة التائبين” .
وعن براعة الملحن عملاق القصيدة رياض السنباطي، نجد أنه في بدايتها أقدم على الإيقاعات الراقصة التي تتماشى مع مرحلة مجون الشاعر، خاصةً عندما تصل تلك الإيقاعات ذروته في قوله” أطفيء لظى القلب بشهد الرضاب، بل وتتجلى عبقريته عندما يلحن عبارة” فإنما الأيام مثل السحاب” حيث نجده يبالغ في مد كلمة السحاب، لتتخيل معها أنك تصعد إلى عنان السماء، أما في مرحلة التوبة التي في نهاية القصيدة فنجد أنه لجأ إلى أسلوبٍ فريد يشبه أسلوب الابتهالات التي يقدمها المبتهلون، ويظهر ذلك بصورةٍ واضحة عندما يقول: يا عالم الأسرار علم اليقين، فنجد أنها تكرر هذه الجملة أكثر من مرة على طريقة المبتهلين، وعندما تكرر جملة يا قابل الأعذار بصوتها المملوء بالشجن، وكأنها تبكي على ماكان منها، وهو أسلوبٌ لحني يناسب الحدث التي تتكلم عنه، لذلك استحقت هذه القصيدة أكثر من مقالٍ، بل إنني أرى أنها تستحق أكثر من ذلك.