كثيرأً ما أشار مقدم برنامج مصر اليوم د. توفيق عكاشة إلى مصر ومكانتها في آخر الزمان، وللأسف لم يشر لهذا في كتابه دولة الرب: الماسونية والألفية السعيدة. ربما لأن الموضوع متشعب، كثير التفاصيل، آثر أن يكون الكتاب قاصراً على النقاط الأهم فقط. ولكن أي دور منوط بها مصر في آخر الزمان؟ إذا كان لنا فهم البدايات جيداً سيكون من السهل رسم أو توقع الحد الأدنى من النهايات. وبما أن مفهوم الزمن حسب مايراه الشيخ عمران نزار حسين وأوضح ذلك في كتابه ” مفهوم الزمان في القرآن” وتُرجم للعربية ومتاح على الإنترنت لمن يريد الإستزادة. فمن البديهي أن تلعب مصر دوراً محورياً في نهاية التاريخ، فمصر ” حارتنا أصل مصر، ومصر أصل الدنيا” هكذا يبدأ نجيب محفوظ روايته البديعة الفلسفية الصوفية “أولاد حارتنا” وكادت أن تتسب في إنهاء حياته.
والسؤال الأكبر هو ماذا أعطت مصر للعالم في مستهل التاريخ الإنساني؟ لاشك أن اليهودية لصيقة بمصر ومدينة لها بكثير من الأمور، فكانت لمصر والعبرانيين، ومن بعدهم مملكة إسرائيل ويهوذا في العالم القديم جولات في التاريخ، لعل أشهرها هي قصة النبي يوسف عليه السلام ورحلة بني إسرائيل في مصر، وقصة موسى عليه السلام والخروج. ولاشك أنه ما بين قصة النبي يوسف الفتى العبراني، الذي قُدر له حكم مصر، وبين عنف قصة الخروج، وعقاب الرب الشديد لفرعون ولمصر، جعلت رؤية اليهود لمصر مركبة وشديدة التعقيد، وهنا لا أقول لليهود فقط، ولكن للمصريين أنفسهم، وحتى للعالم الغربي أيضاً، صورة مصر القديمة المتشابكة في العقل الجمعي لدى اليهود ومنه إلى المسيحية وخصوصاً في المسيحية الغربية البعيدة عن الشرق كانت ملتبسة، وهنا أستعير كلام يان أسمان ” وهو عالم مصريات، وعقائد، وتاريخ الأفكار الدينية والثقافية” في كتابه الذي يعد من جملة أعمال خصصها لمناقشة الموضوعات التي تمس العهد القديم ومصر القديمة، وهو Die Mosaische Unterscheidung : der Preis der Montheismus
أي ” التمايز الموسوي: ثمن التوحيد” يقول فيه ” إن مسألة الشغف بمصر منذ عصر النهضة في أوروبان كان نتيجة لإعادة إكتشاف نصوص هرمس، والكتب الهيرغوليفية والمسلات التي فتنت الحضارة الغربية بمصر في القرن 18 وخصوصاً أبو الهول واللأهرام والأسرار الماسونية، وازداد “الولع بمصر” في القرن 19 مرة أخرى مع الحملة الفرنسية التي خرجت بسفر “وصف مصر” ، لكن الشيء الذي لم يكن معروفا هو الرأي الذي تكون إبان القرني 17 وال18 عن شخصية موسى المصري، وبلغت أوج تلك الفكرة بأن مصر هي منشأ توحيد الكتاب المقدس وأن كتابة الكتاب المقدس (العهد القديم تحديداً) كان محاولة اتدوين الأسرار المصرية ” وكان مايريد أسمان قوله أن موسى عليه السلام الذي نشأ وتربى في القصر الملكي المصري، وكانت ابنة فرعون تحتضنه وتقبله كابنها قد اطلع على علوم الكهانة المصرية ومنها شكل من أشكال التوحيد، لكن يظل توحيد موسى فريداً لأسباب كثيرة منها العنف الذي صحب تجلي الله له ولشعب إسرائيل في سفر الخروج. وما من شك أن العبودية والقهر الذي مارسه فرعون وجنوده على شعب بني إسرائيل قد طُبع في الذهن الغربي بصورة سلبية عن مصر القديمة كثقافة وثنية لا تعرف الرحمة.. وتنبى كل من الإسلام والمسيحية هذا المفهوم عن الطاغي المتجبر الذي لا يعرف الله، ويعاقبه الله عقاباً شنيعاً على طغيانه، وتكثفت هذه الصورة مع ادولف هتلر في المانيا النازية، كانت المقارنة جيدة بحق، والظروف مشابهة!! لكن هناك تفسيرات لا حصر لها عن الخروج ومصر بين اليهود أنفسهم، منها ما يجنح أن مصر كانت تمثل “الدنيا” التي وجب على بني إسرائيل الخروج منها، إلى الملك الإلهي “اورشليم”، لذلك لم يخطئ عكاشة (مع حفظ الألقاب) في التأكيد أكثر من مرة على أن مصر تمثل العالم أو الدنيا، فلا شك أن مصر القديمة بمعابدها الشاهقة وحياتها البرية والريفية وغابتها التي كانت تملأ البيئة في تلك الفترة ، جعل من مصر صورة مصغرة للعالم بأكمله.. والكون، وهو ما يتجلى أكثر في الدين المصري القديم وطقوس الديانة المصرية حيث المعبد صورة حية من الكون. فكان الخروج لابد منه من ” الدنيا المبهرة ذات الزخرف” مصر إلى ملك الله أو مملكة داوود فيما بعد القدس. لا أستطيع أن اخوض في التفسير السياسي الحالي الذي يجيده د. توفيق لكن ما أود أن اقوله أن الربط الديني الذي اعتمد عليه في إعتبار مصر ” ملك الدنيا” أو ” الدنيا نفسها والعالم بصورة مصغرة” يحتاج إلى مزيد من الأبحاث والقراءات وللأسف لا تتوفرمادة عربية جيدة تنأى بنفسها عن التعصب الديني والإنتماء السياسي لمناقشة العلاقة بين مصر وبني إسرائيل قديما في ضوء العلوم الإنسانية الحالية: مثل علم الدلالة، علم العقائد، علم الدين اوالثقافة الذي لم يؤسس لهما جيداً بعد في اللغة العربية
علم الدين، ويعنى بدراسة الدين وافكاره وتطورها في إطارها التاريخي الثقافيReligionwissenshaft
علم الثقافة ويعني بدراسة تاريخ الأفكار والسياقات الحضارية والتاريخية التي نشأت فيها الأفكار والتأثير والتأثرKulturwissenschaft
ما أعطته مصر للحضارةالغربية لا يقدر بثمن، ولا يزال يحتاج إلى الكتابة عنه باللغة العربية، ولا يمكن فهم الدور الذي ستقوم به مصر في نهاية التاريخ دون فهم واعي ومجرّد للعلاقة بين مصر وبين إسرائيل في العالم القديم بشكل أعمق.
“سرديات الكتاب المقدس في الفن العالمي، إلقاء الطفل موسى في البحر، على اليمين يمثل عمرام (ن) والد موسى ومعه أخوه هارون ذو الثلاث سنوات يسير مبتعدا، وعلى اليمين أسفل الشجرة يجلس رجلاً يمثل إله النيل ومعه سفنكس يرتدي طربوشا عثمانيا يمثل “مصر” .. نيكولاس بوسن ، 1654″
التعليقات