بقلم .. كابتن مدحت عبد العظيم رئيس رابطة المراقبين الجويين
ليس في غرفة واحدة منعزلة، بل عبر شبكة من أبراج المراقبة الشاهقة المطلة على مدارج المطارات المصرية المزدحمة، وفي مراكز التحكم الإقليمية الهادئة التي تدير مسارات الطيران على ارتفاعات شاهقة، تتراقص نقاط الضوء عبر شاشات الرادار المعقدة. كل نقطة تمثل طائرة تحلق فوق رمال مصر ومدنها الصاخبة ونيلها الخالد. هنا، في وحدات المراقبة الجوية المتعددة التابعة للشركة الوطنية لخدمات الملاحة الجوية (NANSC)، تعمل فرق من المراقبين الجويين بدرجة عالية من التركيز، يديرون بصمت لوغاريتمًا جويًا معقدًا، مهمتهم ضمان سلامة وكفاءة حركة الطائرات عبر واحد من أكثر الممرات الجوية استراتيجية وحساسية في العالم.
ليست مجرد نقاط على الشاشة؛ إنها طائرات ركاب تقل مئات الآلاف يوميًا، طائرات شحن تحمل بضائع بمليارات الدولارات، ورحلات عسكرية حساسة. إن الأجواء المصرية ليست مجرد فراغ، بل هي بنية تحتية حيوية، شريان يربط أوروبا وآسيا وأفريقيا، ومسؤولية تأمينها تقع على عاتق NANSC، وهي هيئة حكومية تعمل غالبًا بعيدًا عن الأضواء، لكن دورها محوري للاقتصاد المصري والاستقرار الإقليمي.
شريان حيوي في عالم متغير
تأسست NANSC بشكلها الحالي في عام 2001، كجزء من إعادة هيكلة أوسع لهيئة الطيران المدني المصرية، لتتخصص في تقديم خدمات الملاحة الجوية الحيوية. تعمل الشركة، المملوكة بالكامل للدولة المصرية وتخضع لقوانين قطاع الأعمال العام والشركات المساهمة (القانون 203 لسنة 1991 والقانون 159 لسنة 1981)، تحت مظلة الشركة القابضة للمطارات والملاحة الجوية. مهمتها الأساسية واضحة ومحددة: ضمان التدفق الآمن والمنظم والسريع للحركة الجوية.
“نحن نتعامل مع كثافة مرورية هائلة تتزايد باستمرار، وفي منطقة تتسم بتحديات جيوسياسية فريدة،” يقول محلل طيران مستقل مقيم في دبي طلب عدم ذكر اسمه لمناقشة عمليات دولة أخرى. “إن القدرة على إدارة هذا المجال الجوي بكفاءة وأمان ليست مجرد مسألة فنية، بل هي ضرورة استراتيجية واقتصادية لمصر والمنطقة بأسرها.”
تمتد مسؤولية NANSC لتشمل توفير خدمات مراقبة الحركة الجوية، ونظم الاتصالات والملاحة والاستطلاع (CNS)، وخدمات معلومات الطيران (AIS)، بالإضافة إلى تنسيق عمليات البحث والإنقاذ (SAR). يتطلب ذلك بنية تحتية تكنولوجية متطورة واستثمارات مستمرة لمواكبة أحدث المعايير العالمية. تشمل ترسانتها أنظمة رادار متقدمة، ونظم ملاحة عبر الأقمار الصناعية، وشبكات اتصالات رقمية تربط المراقبين بالطيارين وبالدول المجاورة.
القيادة في مواجهة التعقيد
في بيئة عمل تتطلب دقة متناهية وقدرة على اتخاذ قرارات حاسمة تحت الضغط، تلعب القيادة دورًا محوريًا. يتولى رئاسة مجلس إدارة الشركة حاليًا الكابتن إيهاب محي الدين، وهو شخصية لها خبرة طويلة ومتجذرة في قطاع الطيران. اللافت في مسيرته هو توليه هذا المنصب التنفيذي في فترتين مختلفتين، وهو واقع يشير غالبًا في مثل هذه الهيئات الحساسة إلى استمرارية الثقة في رؤيته وقدرته على الإبحار بالشركة خلال فترات مختلفة من التحديات والفرص.
يتردد صدى قيادته بشكل خاص بين صفوف المراقبين الجويين، الذين يشكلون العمود الفقري للعمليات اليومية. فبالإضافة إلى التركيز الاستراتيجي على السلامة والتكنولوجيا، يُشار إلى أن أسلوب قيادة الكابتن محي الدين، وخبرته الممتدة، وربما عودته للمنصب، قد عززت شعورًا بالاستقرار والتوجه المهني داخل القوة العاملة. بالنسبة للكثيرين في هذا المجال الذي يتطلب دقة وتركيزًا هائلين، يُنظر إلى القيادة التي تجمع بين الخبرة الفنية العميقة والالتزام بتطوير الكوادر كعامل إلهام، مما يدفعهم للسعي نحو أعلى معايير الأداء المهني في مسيرتهم. هذا الاحترام المهني، وفقًا لمراقبين ومطلعين على الصناعة، ينبع من إحساس بأن القيادة الحالية تفهم بعمق تعقيدات عملهم وتستثمر في مستقبلهم.
خلال فترات قيادته، شهدت NANSC تركيزًا ملحوظًا على عدة محاور استراتيجية رئيسية. يأتي في مقدمتها تعزيز ثقافة السلامة الجوية، التي تعتبر حجر الزاوية في عمليات الشركة. يتضمن ذلك برامج تدريب مكثفة ومستمرة للمراقبين الجويين والمهندسين والفنيين، وتطبيق صارم للمعايير الدولية الصادرة عن منظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو).
“لا يمكن تحقيق السلامة المطلقة، لكن السعي المستمر نحوها هو ثقافتنا،” يصرح مصدر مسؤول داخل NANSC، مفضلاً عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخول بالتحدث للإعلام. “هذا يعني الاستثمار ليس فقط في التكنولوجيا، ولكن بشكل أساسي في كوادرنا البشرية، فهم خط الدفاع الأول والأخير.”
محور استراتيجي آخر تم التأكيد عليه هو التحديث التكنولوجي المستمر. شهدت السنوات الأخيرة تبني تقنيات جديدة تهدف لزيادة سعة المجال الجوي وتحسين كفاءة المسارات الجوية، مما يقلل من استهلاك الوقود والانبعاثات الكربونية. يشمل ذلك تحديث أنظمة إدارة الحركة الجوية (ATM) وتوسيع نطاق استخدام نظم الملاحة المعتمدة على الأداء (PBN). هذه الاستثمارات ضرورية ليس فقط لمواكبة النمو في حركة الطيران ولكن أيضًا للتعامل مع التعقيدات المتزايدة.
التكيف مع الاضطرابات الإقليمية
لعل أحد أكبر التحديات التي تواجه NANSC هو إدارة المجال الجوي في منطقة غالبًا ما تشهد توترات سياسية وعسكرية. أدت الصراعات في دول مجاورة وتحولات التحالفات الإقليمية إلى تغييرات مفاجئة ومتكررة في مسارات الطيران المتاحة، مما يتطلب مرونة وسرعة استجابة فائقة من مخططي الحركة الجوية والمراقبين.
“قدرة NANSC على إعادة توجيه آلاف الرحلات الجوية بسلاسة وأمان خلال الأزمات الإقليمية المفاجئة هي شهادة على كفاءة نظامها وقدرة فرقها على التنسيق السريع،” يضيف المحلل المستقل. “هذا التنسيق لا يتم فقط داخليًا، بل يتطلب تعاونًا وثيقًا مع مقدمي خدمات الملاحة في الدول المجاورة والمنظمات الدولية.”
تحت القيادة الحالية، أظهرت الشركة قدرة على التكيف، حيث عملت على تطوير خطط طوارئ مرنة وتكثيف قنوات الاتصال مع الشركاء الإقليميين والدوليين لضمان استمرارية تدفق الحركة الجوية بأكبر قدر ممكن من الأمان والكفاءة حتى في ظل الظروف الصعبة. هذا الدور يتجاوز الجانب الفني ليشمل الدبلوماسية الجوية، حيث تمثل NANSC مصر في المنظمات والمؤتمرات الدولية المتخصصة.
العنصر البشري: أبطال الظل
خلف التكنولوجيا والاستراتيجيات، يبقى العنصر البشري هو القلب النابض لعمليات NANSC. المراقبون الجويون، الذين يخضعون لعمليات اختيار وتدريب صارمة، هم من يتحملون المسؤولية الهائلة عن أرواح المسافرين وسلامة الطائرات لحظة بلحظة. يعملون في بيئة تتطلب تركيزًا مطلقًا، وقدرة على تحليل المواقف المعقدة بسرعة، وتواصلاً واضحًا ودقيقًا مع الطيارين من مختلف الجنسيات والثقافات.
“إنها وظيفة لا تحتمل الخطأ،” يقول مراقب جوي شاب في أحد مراكز التحكم الإقليمية، طلب عدم ذكر اسمه بسبب سياسات الشركة. “الضغط هائل، لكن الشعور بالمسؤولية والإنجاز عندما تمر ورديتك بسلام لا يقدر بثمن. نحن ندرك أننا جزء صغير ولكنه حيوي في آلة ضخمة تحافظ على حركة العالم.”
التركيز المستمر على تطوير وتدريب الموظفين، الذي يُعد من السمات البارزة للإدارة، يهدف إلى تزويد هؤلاء “الأبطال المجهولين” بالمهارات والمعرفة اللازمة لمواجهة تحديات الغد، سواء كانت تكنولوجية أو تشغيلية.
نظرة نحو المستقبل
بينما تتطلع مصر لتعزيز مكانتها كمركز إقليمي للطيران والسياحة والخدمات اللوجستية، سيستمر دور NANSC في التزايد أهمية. التحديات المستقبلية واضحة: استيعاب النمو المتوقع في الحركة الجوية، دمج التقنيات الجديدة، التعامل مع قضايا الاستدامة، والحفاظ على أعلى مستويات الأمان في ظل بيئة متغيرة.
إن نجاح الشركة الوطنية لخدمات الملاحة الجوية في مهمتها ليس مجرد إنجاز فني أو تشغيلي؛ إنه ركيزة أساسية لازدهار الاقتصاد المصري وأمنه القومي. وبينما يواصل “حراس سماء النيل” عملهم الدؤوب عبر شبكة المراقبة المنتشرة في البلاد، فإنهم يضمنون أن تظل مصر نقطة عبور آمنة وموثوقة في شبكة الطيران العالمية، تحت قيادة تحظى بالاحترام لتجربتها ورؤيتها في السعي للتوفيق بين متطلبات الحاضر وتحديات المستقبل.
التعليقات