جاء قرار وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بإلغاء مساعدات بقيمة 300 مليون دولار لباكستان، التي تم تعليقها بداية هذا العام، بمثابة ضربة جديدة للعلاقات المتدهورة بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، التي تعمقت بصورة أكبر مع تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة يناير/كانون الثاني 2017.
القرار جاء وفق ما ذكره البنتاغون بسبب “تقاعس” إسلام أباد عن اتخاذ إجراء حاسم ضد المتشددين، فضلًا عن أنها توفر ملاذًا آمنًا للمسلحين الذين يشنون حربًا منذ 17 عامًا في أفغانستان المجاورة، وهو الاتهام الذي نفته باكستان مرارًا وتكرارًا، غير أن ذلك لم يمنع واشنطن من اتخاذ قرار تعليق مساعداتها ثم إلغائها.
إلغاء المساعدات الأخيرة لم يكن الأول من نوعه هذا العام، فوفق الكونغرس فقد ألغى تخصيص مساعدات أخرى إلى باكستان قبل عدة أشهر بقيمة 500 مليون دولار، لتصل قيمة المساعدات الملغاة إلى 800 مليون دولار، وهو ما أثار حفيظة الباكستانيين بصورة كبيرة عكستها التصريحات الصادرة عن مسؤولين في إسلام أباد.
البعض توقع ردة فعل سياسية من باكستان حيال السياسة الحمائية الجديدة لواشنطن التي تعمقت جذورها بشكل كبير مع بداية الولاية الأولى للرئيس الحاليّ، لتتصدر روسيا قائمة بورصة التكهنات بشأن الحليف الجديد المتوقع لإسلام أباد بديلاً عن الولايات المتحدة التي ينفرط عقد حلفائها يومًا تلو الآخر.
لم يمنحونا سوى الأكاذيب
“لم يمنحونا سوى الأكاذيب والخداع”، هكذا علق ترامب على إلغاء المساعدات المخصصة لباكستان والممتدة طيلة الـ15 عامًا الأخيرة، متهمًا إسلام أباد بعدم القيام بالدور المنوط بها في مواجهة المتشددين والمسلحين الذين يشنون هجمات في أفغانستان والدول المجاورة لها.
وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس، كانت أمامه فرصة لتقديم هذه المساعدات (300 مليون دولار) إلى باكستان خلال هذا الصيف إن وجد من حكومتها أي بوادر إيجابية وتحركات ملموسة على أرض الواقع لملاحقة المسلحين، لكن هذا لم يحدث، ومن ثم لم يفعل ذلك، حسبما نقلت “رويترز” عن مسؤول أمريكي.
المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية كون فوكنر، برر قرار بلاده بأنه جاء بسبب عدم اتخاذ إجراءات حاسمة من جانب باكستان لدعم إستراتيجية جنوب آسيا، ومن ثم جرى تحويل المبلغ المتبقي وهو 300 مليون دولار لصالح برامج أخرى، مضيفًا أن وزارة الدفاع الأمريكية تريد إنفاق هذا المبلغ على أولويات عاجلة أخرى في حالة موافقة الكونغرس على ذلك.
قرار إلغاء المساعدات لباكستان ليس الأول من نوعه، فخلال السنوات السابقة أصدر البنتاغون قرارات مماثلة بإلغاء مساعدات تقدر بمئات الملايين لكن خطوة العام الحاليّ قد تحظى باهتمام أكبر من جانب إسلام أباد ورئيس الوزراء الجديد عمران خان في وقت يعاني فيه الاقتصاد الباكستاني من مصاعب جمة.
الملفت للنظر أن هذه الخطوة تأتي قبيل زيارة متوقعة لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ورئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال جوزيف دانفورد إلى الباكستانية إسلام أباد التي من المرجح أن يكون مواجهة المسلحين “جزءًا أساسيًا من النقاش” حسبما أوضح ماتيس.
يأتي القرار الأمريكي في إطار سياسة تقليص حزمة المساعدات المقدمة لباكستان كنوع من الضغوط الممارسة للانحياز للأجندة الأمريكية في خصر دويلات المعسكر الشرقي، ففي الشهر الماضي على سبيل المثال حذفت إدارة ترامب عشرات من الضباط الباكستانيين من برامج تدريبية وتعليمية تحظى بإقبال منهم وكانت تعد رمزًا للعلاقات العسكرية الثنائية منذ أكثر من عشر سنوات.
يذكر أن باكستان منذ عام 2002 تلقت من الولايات المتحدة نحو 33 مليار دولار في صورة مساعدات، بينها 14 مليار من البنتاغون تهدف إلى تعويض الحلفاء الذين يعانون من تكاليف دعم عمليات مكافحة التطرف والإرهاب في آسيا.
روسيا.. هل تصبح البديل؟
في بداية السبعينيات وحين انحازت الولايات المتحدة إلى الهند، سياسيًا واقتصاديًا، على حساب باكستان التي عانت في هذه الفترة من تجاهل واضح من الأمريكان، ما كان أمام رئيس الوزراء الراحل ذو الفقار علي بوتو (1928 – 1979) إلا البحث عن حليف آخر، واستقر حينها على الصين ولم تكن قد شهدت الطفرة الاقتصادية التي تعيشها منذ ثلاثة عقود.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى، ففي أعقاب الضغوط الأمريكية الممارسة خلال السنوات الأخيرة على وجه التحديد، قد يلجأ رئيس الوزراء الباكستاني الجديد عمران خان، إلى البحث عن حليف جديد، قادر على تعويض الغياب الأمريكي، وهو ما ألمح إليه وزير خارجيته، خواجة محمد آصف، حين أعرب عن أمل بلاده بزيادة التعاون مع روسيا في المجال العسكري التقني، وتنمية الاستثمارات الروسية في قطاع الطاقة الباكستاني.
وأضاف آصف: “تعاوننا العسكري مع روسيا تحسن بلا شك في السنوات الأربعة الأخيرة، أعرف ذلك بصفتي وزير دفاع سابق، لكن هناك إمكانية للتحسن، ما يوجد لدينا الآن غير كاف، يمكن زيادته بأضعاف، نحن نعول على زيادة تعاوننا خصوصًا في مجال مكافحة الإرهاب، نحن نعول كذلك على الاستثمارات الروسية في الطاقة والنفط والغاز والكهرباء”.
في 26 من نوفمبر/تشرين الثاني 2014، وصف وزير الدفاع الباكستاني علاقته بالولايات المتحدة بأن: “أمريكا ليست حليفًا يمكن الوثوق به، فقد كانت حليفًا نسبيًّا لنا في الستينيات والسبعينيات، وكانت سياساتها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا كارثية، وما زلنا ندفع ثمنها”، علمًا بأن هذه لم تكن المرة الأولى التي يُعَبِّر فيها مسؤول باكستاني رفيع المستوى عن “الخيبة” من نتائج العلاقة بين باكستان والولايات المتحدة الأمريكية، وهي العلاقة التي تعود إلى عام 1947.
سفيرة باكستان لدى الأمم المتحدة مليحة لودهي، يناير الماضي، قالت إن بلادها مستعدّة لإعادة النظر في تعاونها مع الولايات المتحدة ما لم يتم تقدير هذا التعاون، على خلفيّة اتهامات واشنطن لإسلام أباد بتوفير ملاذات آمنة لإرهابيين، داعية أمريكا إلى عدم إلقاء اللوم في أخطائها وفشلها على الآخرين.
يذكر أن وزير الخارجية الباكستاني، هاجم ترامب بسبب تدوينة كتبها على حسابه الرسمي في 2 من يناير/كانون الثاني الماضي قال فيها إن أمريكا منحت بلاده 33 مليار دولار خلال 15عامًا، موجهًا حديثه للرئيس الأمريكي قائلاً: “يمكن لترامب التعاقد مع شركة لمراجعة البيانات على نفقتنا لكشف حقيقة الأرقام التي يكتبها”، وتابع: “لندع العالم يعرف من الذي يمارس الكذب والخداع”.
كما حدث مع الخصمين، اليابان والصين، من تقارب خلال الآونة الأخيرة، ربما يصل إلى تطبيع كامل للعلاقات بعد عقود من التوتر، خطوة عززتها سياسات أمريكا الحمائية الجديدة، فقد يتكرر الأمر مع العدوين السابقين، باكستان وروسيا، وهو ما تشير إليه خطوات التقارب بين البلدين خلال الأشهر الماضية.
في الوقت الذي يضعف فيها النفوذ الأمريكي في إسلام أباد، جراء تباين وجهات النظر حيال الحرب في أفغانستان، تعمل روسيا على تعزيز العلاقات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية معها بما قد يقلب تحالفات تاريخية في المنطقة رأسًا على عقب ويفتح سوقًا للغاز سريعة النمو أمام شركات الطاقة الروسية.
الحديث عن تحالف باكستاني روسي ربما يكون في بدايته في ظل ملء الصين للفراغ المتنامي الذي تخلفه أمريكا، غير أن خطوات التقارب المتسارعة والمتجسدة في سلسلة من الصفقات في مجال الطاقة والتعاون العسكري تبشر ببث الحياة في العلاقات الروسية الباكستانية التي خمدت لعشرات السنين.
باكستان وأمريكا.. محطات من الصعود والهبوط
شهدت العلاقات بين أمريكا وباكستان التي تعود إلى أكتوبر/تشرين الأول 1947 موجات متلاطمة من المد والجذر، إذ كانت الولايات المتحدة على رأس الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع باكستان منذ تأسيسها، ما دفع الأخيرة إلى الانحياز لمعسكر واشنطن على حساب علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت.
خلال الحرب الباردة مثَّلت باكستان حليفًا مهمًّا للولايات المتحدة، ومن ثم كانت المبررات لدعمها من الأمريكان موجودة، فرغم الحظر الذي كان مفروضًا على الأسلحة حينها قدمت أمريكا حزمة مساعدات عسكرية للباكستانيين، وهو ما دفع الهند في حرب 1971 إلى اتهام الولايات المتحدة بتقديم أسلحة ومساعدات عسكرية لباكستان، بهدف وقف اجتياح الهند لمزيد من المدن الباكستانية، ففقدان باكستان كان يعني بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية فقدان حليف مهمٍّ في الحرب السوفيتية.
ظلت العلاقات بين البلدين أكثر متانة خلال هذه الفترة وما بعدها، فبحلول عام 1981 بلغت المساعدات الأمريكية لباكستان قرابة 3.2 مليار دولار، وصلت بحلول 1987 إلى 4.02 مليار دولار، لتحتل إسلام أباد المرتبة الرابعة في قائمة الدول الأكثر تلقيًا للمساعدات العسكرية الأمريكية بعد “إسرائيل” ومصر وتركيا، ثم وصلت بعد ذلك إلى المرتبة الثانية بعد “إسرائيل”.
وفي المجمل، ربما لا تستطيع باكستان الفكاك بصورة كاملة من علاقاتها مع أمريكا لما قد يترتب على ذلك من تبعات لا تقوى إسلام أباد على تحملها في الوقت الراهن، غير أن التوتر المتصاعد في العلاقات بينهما ربما يدفعها لإعادة النظر في خريطة تحالفاتها، لتلجأ إلى حلفاء جدد، على رأسهم روسيا وإيران.
حينها اتهمت واشنطن إسلام أباد بالتآمر لإبعاد فصائل طالبان والموالين لها خارج العمليات الأمريكية، ووصل الخلاف إلى ذروته في يونيو/حزيران 2008 حين قتل 11 من الجيش الباكستاني في غارة جوية أمريكية قال البنتاغون حينها إنها كانت تستهدف حركة طالبان، فضلاً عن بعض عمليات اختراق الأراضي الباكستانية من قوات أمريكية ما تسبب في تعاظم الخلاف.
وصل التوتر بين واشنطن وباكستان إلى أقصى درجاته بدءًا من 2009 وحتى الآن، حين اعترف الرئيس الباكستاني الأسبق برويز مشرف أن مليارات الدولارات من المساعدات التي تلقَّتها باكستان من الولايات المتحدة الأمريكية؛ لكونها شريكًا في الحرب ضد الإرهاب، تم تحويلها من أجل بناء آلية دفاع أفضل ضد الهند، ودافع عن ذلك بقوله: “لا يوجد ما يُلْزِم باكستان باستخدام هذه المساعدات لمحاربة طالبان فقط، بل من حقها استخدامها لمواجهة أي تهديد من أي طرف”، وهو ما اعتبرته أمريكا بداية مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين التي كان عنوانها مزيد من تصعيد التوتر وفقدان الثقة بين الجانبين.
وفي المجمل، ربما لا تستطيع باكستان الفكاك بصورة كاملة من علاقاتها مع أمريكا لما قد يترتب على ذلك من تبعات لا تقوى إسلام أباد على تحملها في الوقت الراهن، غير أن التوتر المتصاعد في العلاقات بينهما ربما يدفعها لإعادة النظر في خريطة تحالفاتها، لتلجأ إلى حلفاء جدد على رأسهم روسيا وإيران.
قد تكون المؤسسة العسكرية في باكستان من أكثر المدافعين عن علاقاتها مع واشنطن في ظل الدعم المقدم لها وإن تأرجح صعودًا وهبوطًا، إلا أن الكثير من الكتل السياسية الباكستانية على اختلاف توجُّهاتها تدعو إلى إطار جديد يحكم علاقة بلادهم بالولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الإطار مفاده أن المساعدات الأمريكية لباكستان لم تعد بذات الأهمية التي كانت عليها من قبل خاصة بعدما تكشف عن دوافعها الحقيقية التي تأتي تحت عنوان “الابتزاز والضغط” ومن ثم لا بد من توصيف جديد لهذه العلاقة تحسم باكستان من خلاله مسألة التدخل في قرارها السياسي والحفاظ على سيادتها ومنع استخدام واشنطن لترابها كقاعدة لشن عمليات عسكرية ضد دول مجاورة قد تحتاج إليها إسلام أباد مستقبلاً.
التعليقات