السيد الفضالي .. التاريخ في رساله الى الناصريين والعلاقة بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر
وقد وقفنا في الجزء الاول عند أول صدام مكشوف بين الإخوان المسلمين ومجلس قيادة الثورة في 14 يناير 1954
وفي هذا اليوم أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين لتآمرهم مع السفارة البريطانية على قلب نظام الحكم وتم اعتقال المرشد و450 عضوًا من أعضاء الجماعة. وقد أصدر مجلس قيادة الثورة بيانًا مطولًا شرح فيه تطور العلاقة بين الجماعة والمجلس منذ البداية حتى صدور قرار الحل، أي منذ صبيحة يوم 23 يوليو 1952 حتى 14 يناير 1954، وقد حوى البيان ثلاثة عشر نقطة.
عند هذا الحد انضم الإخوان المسلمون إلى الأحزاب والقوى الديمقراطية في مساندة الرئيس محمد نجيب في مواجهته مع مجلس قيادة الثورة، وذلك بالاشتراك في مظاهرة 28 فبراير 54 التي أعادت نجيب إلى السلطة بعد إبعاده في المرة الأولى، بل إن الإخوان لعبوا الدور الأكبر في هذه التحركات الشعبية، فطوال عام ونصف تلقت فيه الأحزاب والقوى الديمقراطية واليسارية الضربة تلو الضربة كان الإخوان بمنأى عن هذه الضربات حتى صدر قرار الحل وما أعقبه من اعتقالات، وقد شارك في هذه المظاهرات الشعبية إلى جانب الإخوان كل من الوفديين والشيوعيين والاشتراكيين، وقبض على 118 من المشاركين من بينهم 46 من عناصر الإخوان.
لكن هل كانت هذه نهاية العلاقة بين الإخوان ونظام يوليو؟
سرعان ما عادت المياه إلى مجاريها عندما اتصل عبد الناصر بقادة الإخوان المعتقلين في السجن الحربي في نهاية مارس لاستمالتهم إلى جانبه في صراعه مع نجيب، وقد نجح بالفعل في تحييد موقفهم مقابل عودتهم للنشاط بحرية في الشارع، وقد كان؛ لكن إلى حين…
حادث المنشية والطلاق الثاني بين الأخوان ونظام يوليو
في صيف عام 1954 كان قد بات واضحًا أن شهر العسل بين الإخوان والضباط الأحرار قد انتهى، لقد حقق مجلس قيادة الثورة غايته من التحالف مع الإخوان ولم يعد في حاجة إليهم، وأدرك الإخوان أنهم وقعوا في فخ، وأن حريتهم في الحركة التي وعدهم بها عبد الناصر في مفاوضاته معهم في مارس 54 بدأت تتبدد.
بدأ الصدام بين الإخوان ومجلس قيادة الثورة في يوم الجمعة 27 أغسطس 1954، ففي ذلك اليوم، وفي حي منيل الروضة وعقب صلاة الجمعة اعتلى القيادي الإخواني حسن دوح المنبر بمسجد شريف وألقى خطابًا هاجم فيه سياسات مجلس قيادة الثورة وما تقوم به من إجراءات وخرج بمظاهرة من المسجد اشتبكت بها قوات الشرطة ووقعت إصابات في الجانبين، وفي نفس اليوم خرجت مظاهرات بقيادة الإخوان المسلمين في طنطا اشتبكت هي الأخرى مع الشرطة.
يومًا بعد يوم كانت الأمور بين الطرفين تسير من سيء إلى أسوا، إلى أن كانت القطيعة النهائية مع حادث المنشية يوم 26 أكتوبر 1954، كان عبد الناصر يخطب في ميدان المنشية في احتفال شعبي بتوقيع اتفاقية الجلاء، وأثناء إلقاء جمال عبد الناصر لخطابه أطلق عليه شاب ثمان رصاصات، وتصور الحضور أن عبد الناصر أصيب، وحاول الحرس الخاص إخراجه من موقع الحدث لكنه رفض وواصل إلقاء خطابه قائلًا: “أيها الرجال فليبق كلٌ في مكانه، حياتي فداء لمصر، دمي فداء لمصر، أيها الرجال، أيها الأحرار، أتكلم إليكم بعون الله بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا علي، إن حياة جمال عبد الناصر ملك لكم، عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملًا من أجلكم ومكافحًا في سبيلكم، سيروا على بركة الله، والله معكم ولن يخذلكم، فلن تكون حياة مصر معلقة بحياة جمال عبد الناصر، إنها معلقة بكم أنتم وبشجاعتكم وكفاحكم، إن مصر اليوم قد حصلت على عزتها وعلى كرامتها وحريتها، سيروا على بركة الله نحو المجد نحو العزة نحو الكرامة“.
تم القبض على الشاب الذي أطلق الرصاص وكان اسمه محمود عبد اللطيف، كان يعمل سمكري بإمبابة وينتمي للإخوان المسلمين حسب الرواية الرسمية، ووفقا لرواية المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه “ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢” فإن محاولة اغتيال عبد الناصر قد رفعت من رصيده شعبيًا وساعدت في التفاف الجماهير حوله، وبغض النظر عن مدى صحة تقدير الرافعي الذي كتب كتابه سنة ١٩٥٩ فالمؤكد أن النظام قد استفاد من الحادث استفادة سياسية كبيرة.
قالت التحقيقات إن محمود عبد اللطيف كان عضوًا في جماعة الإخوان، وإن المحرض له المحامي هنداوي دوير عضو الجماعة، وإن محاولة اغتيال عبد الناصر كانت جزءًا من مؤامرة كبرى لاغتيال أعضاء مجلس قيادة الثورة وحوالي ١٦٠ ضابطًا من ضباط الجيش، كما تضمنت الاتهامات التي تم توجيها للجماعة تخطيطها للاستيلاء على الحكم وتخزينهم لكميات كبيرة من الأسلحة والمفرقعات ليستخدمها الجهاز السري، وهي الأسلحة التي قال المرشد في المحاكمة إنها تخص الضباط الأحرار وأن الإخوان حفظوها لهم أثناء حريق القاهرة في يناير 1952، كما أشارت التحقيقات إلى أن هناك عدة خطط أخرى لاغتيال جمال عبد الناصر من بينها نسفه بحزام ناسف أو نسف الطائرة التي تقله في إحدى رحلاته، وقد وجه الاتهام لاثنين من الضباط هربًا خارج البلاد هما البكباشي أبو المكارم عبد الحي والبكباشي عبد المنعم عبد الرءوف والأخير كان من الضباط الأحرار. وقد أشارت التحقيقات كذلك إلى أن مرشد الجماعة المستشار حسن الهضيبي كان على علم بالخطة ومباركًا لها. ومازال الحادث إلى الآن يثير الكثير من الجدل بين مصدق للرواية الرسمية ومنكر لها باعتبار أن الموضوع كله كان خطة مدبرة من النظام للتخلص من الإخوان، وقد نشرت مجلة المصور منذ عامين موضوعًا عن حادث المنشية تضمن بعض الشهادات التي أكد أصحابها أن مجموعة من شباب الإخوان خططوا لاغتيال عبد الناصر فعلًا دون موافقة قادة الجماعة الذين كانوا يرفضون وقتها هذا الأسلوب خوفًا من عواقبه عليهم، وإن أحد قادة الجماعة قام بإبلاغ الأجهزة الأمنية بالموضوع لإبراء ساحة الجماعة من أي حادث قد يقع، فقامت الأجهزة باصطياد الشباب الذي كان يفكر في عملية الاغتيال، ودفعهم للسير في خطتهم مع وضعهم تحت السيطرة الكاملة وتسلميهم سلاحًا به رصاصات “فشنك” بما يضمن سلامة عبد الناصر ونجاته من الحادث، ثم استخدام الحادث في التخلص من الإخوان، ستبقى الحقيقة ضائعة إلى أن يتم الكشف عن وثائق تلك الفترة إذا كانت هذه الوثائق موجودة إلى الآن.
لقد اتخذ مجلس قيادة الثورة حادثة المنشية مبررًا للعودة إلى المحاكم الاستثنائية فأصدر أمرًا بتأليف محكمة مخصوصة باسم محكمة الشعب برئاسة قائد الجناح جمال سالم وعضوية القائمقام أنور السادات والبكباشي حسين الشافعي لتحاكم كل من يتهم بأفعال تعد خيانة للوطن أو ضد سلامته في الداخل أو الخارج وكل ما يعتبر موجها ضد نظام الحكم والأسس التي قامت عليها الثورة، وكانت نموذجًا جديدًا من نماذج القضاء الاستثنائي وخرق العدالة، حيث يقوم طرف من طرفي الخصومة بمحاكمة خصمه في إطار خارج عن النظام القضائي الطبيعي، وفي جرائم فضفاضة غير محددة، وفي ظروف لا تراعى فيها قواعد قانون الإجراءات الجنائية، وبعقوبات لا ترتبط بقانون العقوبات بالضرورة.
وأظن أن محاولة اغتيال جمال عبد الناصر أو أية جريمة أخرى لا تبرر للدولة خرق القانون واللجوء إلى المحاكم الاستثنائية، ولو عدنا إلى الأربعينات سنجد أن اثنين من رؤساء الوزارات تم اغتيالهم بالفعل هما أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي ولم يدعو أحد إلى محاكمة القتلة أمام محاكم استثنائية، لكن هذه المحاكم الاستثنائية التي توالى انعقادها تحت مسميات مختلفة وفي ظروف مختلفة منذ إنقلاب يوليو ١٩٥٢، مثُل أمامها وفديون وشيوعيون وإخوان واشتراكيين وغيرهم من الخصوم السياسيين للنظام، تذكرنا بالمحكمة المخصوصة التي تشكلت في زمن الاحتلال البريطاني لمحاكمة فلاحي دنشواي.
شكلت محكمة الشعب بعد تأليفها ثلاث دوائر فرعية أحيلت لها عدة قضايا من بينها قضايا جماعة الإخوان المسلمين التي بلغ عدد المتهمين فيها عدة مئات، وصدرت الأحكام التي تضمنت الحكم بالإعدام على سبعة من أعضاء الجماعة بمن فيهم المرشد العام المستشار حسن الهضيبي، لكن الحكم عليه خفف إلى الأشغال الشاقة المؤبدة ثم أفرج عنه لأسباب صحية، بينما نفذ الحكم في ستة آخرين، أبرزهم عبد القادر عودة.
وهنا يظهر الفارق جليا بين القضاء الطبيعي والمحاكمات الاستثنائية، فحادث لم يقتل فيه إنسان واحد يعدم فيه ستة أشخاص بينما جريمة اغتيال المستشار الخازندار التي ارتكبها اثنان من شباب الإخوان في أواخر الأربعينات يحكم فيها بالمؤبد!
ووفقا الإحصائية التي أوردها عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة يوليو فان عدد من حكمت عليهم محاكم الشعب كان 867، وعدد الذين حكمت عليهم المحاكم العسكرية 254، ووصل عدد المعتقلين بعد عام من حادث المنشية إلى 2943 معتقلًا انخفض عددهم بعد عام إلى 571 معتقلًا.
بعد تصفية كل القوى لم تعد هناك حاجة إلى الرئيس محمد نجيب، فلم يتبق لاستكمال سيطرة مجلس قيادة الثورة على البلاد إلا التخلص منه. فزعمت التحقيقات أنه كان على اتصال بجماعة الإخوان منذ أبريل 1954، وإنه كان سيعلن تأييده لانقلابهم في حال نجاحه، فتم عزله من رئاسة الجمهورية وتحديد إقامته في 14 نوفمبر على أن يظل منصب الرئيس خاليًا ويدير البلاد مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبد الناصر.
وقبل أن ينتهي عام 1954 كان قرارًا قد صدر بحل مجلس نقابة المحامين الحصن الأخير من حصون الديمقراطية، ووضع المجلس المعين قانونًا جديدا للمحاماة صدر عام 1958، وعمل المجلس المؤقت كما يقول النقيب المؤقت عبد الرحمن الرافعي على إزالة الجفوة بين النقابة وحكومة الثورة! انتظرونا في الجزء الثالث كيف قادت عنترية عبد الناصر المزعومه الى هزيمة مصر في أسرع نكسه في تاريخ العالم خلال 20 دقيقه ضاع خلالها شبه جزيرة سيناء ثلث مساحة مصر