بقلم : المهندس صلاح جنيدي رئيس هيئة الأوقاف الأسبق
في عام 1998 كنت أسكن فى ببت العائلة ، في شقة تعلو شقة والدتي، وكنت أمر عليها عند نزولي و عند صعودي
– كانت الحالته الصحية لوالدى قد بدأت تتدهور شيئًا فشيئًا ، ولم يكن قد أدى فريضة الحج ؛ فطلبت مني والدتي أن أرتب لهما السفر هذا العام ، إذ خشيت ألا يعيش والدي حتى العام المقبل…
و بسرعة، أخرجت مبلغ 20 ألف جنيه – وكان هذا المبلغ يعد ثروة كبيرة في ذلك الوقت – وقالت لي بحزم :
“احجز لنا الحج هذا العام أنا و والدك ، لا نريد أن نؤجله.”
– أخذت المبلغ وهرولت إلى أشهر جمعية تنظم رحلات الحج فى دمياط ، وهناك واجهت الصدمة: الحج يتطلب الاشتراك في عضوية الجمعية أولًا، ثم الدخول في قائمة انتظار طويلة . وحين سألت عن ترتيبهما، أخبروني أن رقميهما 42 و43 ، بينما عدد التأشيرات التي تحصل عليها الجمعية لا يتجاوز 20 تأشيرة سنويًا! أي أن فرصتهما في الحج هذا العام شبه معدومة، وربما فى العام القادم أيضا !!
– وقفتُ مشدوهًا، أتساءل: كيف أخبر والدتي بذلك؟ فهي تتابعني يوميًا بشوق، إنها تتتبع صوت أقدامى على السلم .. تنتظر أي خبر يبشرها بقرب زيارة بيت الله. قررت أن أواصل محاولاتى، لكن القلق قد بدأ يتسلل إلى داخلي – و معه كثير من الغضب – ليس فقط بسبب والدي ووالدتي ، بل بسبب نفسي أنا أيضًا!!
• فقد بدأت أفكر : والدتي – هذه الإنسانة البسيطة – استطاعت أن تدبر هذا المبلغ من مالها الخاص، فماذا عني ؟! كيف يمكنني أن أحج يومًا وأنا موظف بالكاد يكفيه مرتبه ؟! شعرت أنني أسير في الطريق الخطأ .. طريق لن يمكنني – حتى من أداء الفريضة ! انتابتنى ثورة عارمة .. و دون تردد ، كتبت استقالتي !!
– دخلت على وكيل الوزارة وقدمتها له، لكنه نظر إليها .. و هدأ من روعى ، و وضعها جانبًا و قال لى :
” أريد منك القيام بمهمة أخيرة !! : السيد المحافظ سيزور أحد المساجد اليوم لأداء صلاة العصر، أريدك أن تسبقنا للمسجد وتطمئن على كل شيء هناك.”
– أومأت برأسي دون ان ارد ، وذهبت إلى المسجد. راجعت كل شيء من الإنارة إلى النظافة .. الخ ، وحين انتهيت ، لمعت في ذهني فكرة: الجمعية التي قدمت فيها طلب الحج تقع فوق هذا المسجد! إنها فرصة للسؤال عن أي مستجدات ..
. و قلت ” يا رب” !!
– صعدت إلى الجمعية، وهناك رأيت رجل الأعمال الثري الذي يديرها ويمولها، رجل ذو شهرة واسعة، ومقابلته حلم بعيد المنال. اقتربت منه محاولًا الحديث، لكنه تجاهلني تمامًا وخرج مسرعًا. لم أستسلم، وعندما أصبح في منتصف السلم ناديته :
– “أنا مهندس من مديرية الأوقاف، وجئت لترتيب زيارة المحافظ للمسجد الآن!”
توقف الرجل فجأة، ثم استدار وصعد السلم مجددًا، و اتصل بمكتب المحافظ، فأخبروه أن المحافظ فعلا قد تحرك و هو في طريقه إلى المسجد !! رأيت القلق يكسو وجهه، و اندفع خارجًا مرة أخرى ، دون حتى أن يلتفت لى !
– جلستُ في المسجد أنتظر الصلاة، وسرعان ما بدأ المصلون يتوافدون ، ومعهم أعداد كبيرة من الأطفال . امتلأ المسجد بالحيوية، وحضر قيادات الأوقاف والمحافظة، ثم وصل السيد المحافظ، وتبعه رئيس الجمعية، الذي بدا أنه أعد كل شيء ، حيث كان قد قام بعمل دورة لتحفيظ القرآن ، و دعا المحافظ لتوزيع الجوائز ، لكنهم لم يخبروه بموعد حضوره .. انتهت الصلاة و وزعت الجوائز على الأطفال المشاركين ..
. و انصرفنا ،،
• في اليوم التالي – حين كنت انتظر قبول استقالتى – رن الهاتف ، وإذا به رئيس الجمعية بنفسه:
– “أشكرك، فلولا تنبيهك لي لما كنت مستعدًا لزيارة المحافظ، لقد كانت مدبرة لإحراجي!”
انتهزت الفرصة وأخبرته أنني كنت قد صعدت للجمعية بالأمس لأستفسر عن الحج لوالدي ووالدتي…
. لم يرد، وأنهى المكالمة سريعًا !
▪︎ لكن المفاجأة لم تكن قد انتهت بعد !
في اليوم التالي، جاءني اتصال جديد منه، بصوت مختلف تمامًا هذه المرة:
– “ألم تخبرني أنك تريد الحج أنت ووالدك ووالدتك؟ أحضر جوازات السفر والمبلغ بواقع ٥٥٠٠ جنبه لكل واحد منكم ،،
أى 16500 جنيه تكفي لكم جميعًا!”
• شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. لم أصدق ما أسمع! كيف تبدلت الأمور بهذه السرعة؟ كيف تغيرت الأقدار بهذا الشكل العجيب؟ أسرعت بإحضار المطلوب، وكانت المفاجأة الأعظم أن الله كتب لي الحج معهما، رغم أنني لم أخطط لذلك، ولم يكن لدي المبلغ من الأساس! كل ما فى الأمر أن قلبى قد تغير شوقا لبيت الله ،
و لم يكن لى من الأمر حيلة ،،
و الحقيقة اننى اكتشفت أن ابى و أمى- لكبر سنهما – ما كانا ليستطيعان الحج لولا وجودى معهما !
•• عدنا من الحج ونحن ممتنون لله على هذه النعمة. وبعد ثلاثة أشهر، توفي والدي ، وبعد ثلاثة أشهر أخرى، لحقت به والدتي – رحمهما الله ، و رحم أمواتنا جميعا ..
•• حينها فقط أدركت أنه لو لم تحدث هذه المفاجأة، لما كتب لهما الحج أبدًا، ولرحلا عن الدنيا دون أن يؤديا فرض الله !!
•• هذه القصة كانت درسًا عظيمًا لي طوال حياتى : حين يشتاق القلب بصدق، فإن الله يهيئ الأسباب !!
. دمتم فى رعاية الله و أمنه ،،