الأربعاء الموافق 19 - مارس - 2025م

صلاح جنيدي يكتب : ” المحراب “

صلاح جنيدي يكتب : ” المحراب “

 

بقلم : المهندس صلاح جنيدي رئيس هيئة الأوقاف الأسبق

 

. رحلة عبر التاريخ ..

 

▪︎▪︎ ليس المحراب مجرد عنصر معماري فحسب ، بل هو نقطة التقاء بين الروح والمادة ، بين التاريخ والتخطيط ، بين العمارة وتجليات العقيدة…

• فمنذ فجر الحضارات فإن المحراب كان يمثل ذروة التقديس داخل دور العبادة ، إذ يعدّ المكان الذي يتركز فيه تواصل الإنسان مع ربه ،، وقد شهد المحراب تطوراً معمارياً ورمزياً كبيرا عبر العصور ..

 

– ورغم أن شكله وتصميمه الحالى لم يكن يُعرف في بدايات البشرية ، إلا إن فكرة تخصيص مكان مميز للطقوس والعبادة كانت باقية في روح المجتمعات القديمة.

• المحراب في العصور ما قبل الفرعونية:

– قبل ظهور الحضارةالفرعونية، كانت الشعوب – في عصور ما قبل التاريخ – تُخصص أماكن داخل مساكنها أو معابدها البدائية لممارسة الطقوس الدينية والتواصل مع القوى الروحية.. ففي بعض المواقع في مصر ، تم العثور على بقايا أماكن مخصصة للطقوس ، إلا أن التصميم المعماري لم يتبلور بعد إلى ما نعرفه اليوم بـ “المحراب”.

فقد كان التركيز آنذاك ينصب على الإحساس بالمكان المقدس والارتباط بالعالم الروحي أكثر من التفاصيل الهندسية الدقيقة.

 

• تطور مفهوم القدسية في الحضارات القديمة :

– مع مرور الزمن وتطور الحضارات ، نما مفهوم المكان المقدس حتى بلغ ذروته في معابد الحضارة الفرعونية.. ففي مصر القديمة، تبلور مفهوم “قدس الأقداس”، وهو الجزء الخاص من المعبد الذي كان يُحتفظ فيه بالتمثال المقدس للإله، وكان دخوله مقتصراً على الكهنة والملك فقط !! وعلى نحو مشابه، نجد في حضارات سومر وبابل ما يعرف بـ”الساحة المقدسة” ، إذ كان يُعتقد أن الإله يحلّ فيها، بينما احتوت المعابد اليونانية والرومانية على غرف داخلية لتخزين تماثيل الآلهة.

 

 

 

 

 

 

 

▪︎ شكّل المحراب بؤرة العبادة، واتخذ أشكالًا متعددة تعكس تطور الفكر الديني و الفنى لدى الشعوب ..

و كما ذكرت : المحراب ليس مجرد عنصر معماري ، بل هو نقطة التقاء بين العمارة وتجليات العقيدة. منذ فجر الحضارات، فمن المعابد المصرية والبابلية، مرورًا بالكنائس البيزنطية، وصولًا إلى المساجد فى الإسلام ، ظل المحراب رمزًا للاتجاه الروحي، حيث يجتمع التصميم المعماري مع الإحساس العميق بالقدسية.

 

1. الجذور الأولى للمحراب:

▪︎ المعابد المصرية والرافدية:

▪︎ قدس الأقداس في مصر القديمة :

 

– في المعابد المصرية القديمة، لم يكن هناك محراب بالمعنى المتعارف عليه اليوم، لكن كان هناك ” الأقداس”، وهو أقدس مكان في المعبد، مخصص لتمثال الإله. كان هذا المكان محاطًا بالظلام، مخفيًا عن العامة، ولا يدخله إلا الكهنة الكبار .. كما أن تصميم المعابد كان موجهًا بحيث يقود الزائر من الساحات الخارجية إلى الداخل، حيث يصل في النهاية إلى قدس الأقداس، ليعيش تجربة روحية تتصاعد تدريجيًا مع تقدم خطواته داخل المعبد… حتى يصل إلى قمة الرهبة !!

– و بعض المحاريب المصرية، كانت موجهة بدقة فلكية عالية لاستقبال أشعة الشمس في لحظات محددة من العام ، كما هو الحال في معبد أبو سمبل، حيث تتعامد الشمس على قدس الأقداس و وجه الملك في تواريخ مقدسة. هذه الفكرة لم تكن مجرد عنصر معماري، بل كانت تعكس ارتباط المصريين القدماء بالطبيعة والإله.

 

– محاريب المعابد فى منطقة الرافدين : البابليون والآشوريون :

 

– في معابد بلاد الرافدين، كان هناك “محراب” داخلي يضم تمثال الإله أو رمزًا مقدسًا، ويقع عادةً في الزقورة، وهي المعبد المدرج الذي يرمز للصعود إلى السماء. كانت هذه المحاريب تُبنى داخل غرف صغيرة مظلمة، يعتقد أنها تمثل عالم الغيب والروح. كما احتوت بعض المعابد على مشكاوات داخل الجدران لوضع الشعلات المقدسة، مما أعطى بعدًا رمزيًا للنور الإلهي في قلب الظلام.

 

2. المحاريب الإغريقية والرومانية: الانتقال نحو التجريد الهندسي

 

– المحاريب في المعابد الإغريقية :

 

• في الحضارة الإغريقية، لم يكن هناك محراب واضح، لكن الغرفة الداخلية للمعبد، المعروفة باسم السيلّا ، كانت تؤدي وظيفة مشابهة، حيث تضم تمثال الإله، مثل تمثال أثينا في البارثينون. كانت هذه الغرفة مركزية في التصميم، وغالبًا ما تكون مرتفعة قليلًا عن مستوى الأرض لإبراز هيبة التمثال.

 

▪︎ المحاريب الرومانية وتطورها :

 

مع تطور العمارة الرومانية، بدأ استخدام المشكاوات داخل جدران المعابد لوضع التماثيل المقدسة، وهي فكرة أثرت لاحقًا على تصميم المحاريب الإسلامية. بعض هذه المحاريب كانت نصف دائرية، كما هو الحال في البانثيون في روما، حيث نرى تأثيرًا واضحًا على بنية المحاريب الإسلامية فيما بعد.

 

3. المحراب في الديانات السماوية: الاتجاه المقدس

 

المحراب في اليهودية: قدس الأقداس والتوجه إلى القدس

 

في الديانة اليهودية، يشكل “قدس الأقداس أقدس مكان داخل الهيكل، حيث وُضع تابوت العهد، وكان يدخله فقط رئيس الكهنة في مناسبات خاصة. كان اليهود يصلّون باتجاه أورشليم حيث كان الهيكل، وحتى بعد تدميره، ظل التوجه نحوه جزءًا جوهريًا من العبادة، مما يعكس مفهوم المحراب كدليل على الاتجاه المقدس.

 

▪︎ المحراب في المسيحية: مذبح الكنيسة وحنية المذبح

 

في الكنائس المسيحية، خاصة القديمة، كان المذبح يُبنى غالبًا في الجزء الشرقي، وهو اتجاه رمزي يربط النور الروحي بشروق الشمس، مما يعكس مفهوم التوجه إلى النور الإلهي. خلف المذبح، توجد الحنية (Apse)، وهي قبة نصف دائرية غالبًا ما تزين بالفسيفساء الدينية. هذا التصميم كان مقدمة للمحراب الإسلامي، حيث نجد تشابهًا بينه وبين شكل المحراب المجوف داخل جدار القبلة في المساجد.

 

4. المحراب الإسلامي: مزيج من الوظيفة والجمال ،،

 

البداية والتطور :

لم يكن هناك محراب في المساجد الأولى، مثل مسجد النبي في المدينة المنورة. لكن مع تطور العمارة الإسلامية، ظهر المحراب لأول مرة في العصر الأموي، ويقال إن الخليفة الوليد بن عبد الملك هو من أدخله في المسجد النبوي.

 

• أهمية المحاريب الإسلامية :

 

– تحديد القبلة: يوجه المصلين نحو مكة.

 

– تعزيز الصوتيات: تصميمه المجوف يساعد على تضخيم صوت الإمام.

 

– الزخرفة والجمال: المحاريب الإسلامية أصبحت تحفة معمارية، تزين بالفسيفساء والخط العربي.

 

-• أنواع المحاريب الإسلامية :

 

1. المحراب البسيط: تجويف صغير بدون زخرفة، كما في المساجد الأولى.

 

2. المحراب المزخرف: يظهر في العمارة الأموية والعباسية والفاطمية.

 

3. المحاريب الرخامية والفسيفسائية: كما في المسجد الأموي في دمشق ومسجد قرطبة الكبير.

 

5. المحراب بين المادة والروح: التقاء الهندسة بالروحانية

 

▪︎▪︎ المحراب ليس مجرد عنصر معماري، بل هو نقطة التقاء بين الإنسان والإله، بين الجسد والروح. إنه يعكس فلسفة العمارة الدينية في مختلف الحضارات، حيث يصبح الاتجاه هو المفتاح، سواء كان نحو الشمس في المعابد المصرية، أو نحو القدس في اليهودية، أو نحو الشرق في المسيحية، أو نحو الكعبة في الإسلام.

 

• الخطوط المنحنية للمحراب الإسلامي ليست مجرد زخرفة، بل تعبير عن الامتداد الروحي، حيث ينفتح التجويف نحو الداخل، وكأنه يدعو القلب للاتصال بالله. وهذا ما يجعل المحراب أكثر من مجرد حائط مجوف، بل هو رمز للعلاقة الأزلية بين الإنسان وربه، بين العمارة والعقيدة، بين الفن والقداسة.

• روحانيات التصميم وتطور المحراب في العمارة الإسلامية :

 

• تضمنت العمارة الإسلامية بعد ذلك تبني فكرة المحراب مع لمسات خاصة تعكس الروحانية والعملية معاً. ففي المساجد، تُقام الصلاة على هيئة صفوف متوازية، ويكون الإمام في المقدمة لقيادة المصلين، مما يتطلب توفير مساحة كافية للصف الأول. ومن هنا جاءت فكرة بروز المحراب نحو الخارج، إذ أصبح ليس فقط رمزاً للمكان المقدس بل أيضاً عنصراً معماريًا وظيفياً يساعد على تنظيم المصلين وتوجيههم نحو القبلة.

استنتاج :

 

• يمكن القول إن المحراب هو نتاج رحلة تاريخية طويلة بدأت بفكرة تخصيص أماكن مقدسة في العصور البدائية، وتبلورت في الحضارات القديمة لتصل إلى معانٍ روحية معمقة في النصوص الدينية الإسلامية. وفي الإسلام، نجد أن تنظيم الصلاة في صفوف يقود إلى ظهور تصميم المحراب البارز، الذي يساهم في توفير مساحة أكبر للصلاة وللصف الأول، مما يعكس التوازن بين الجانب العملي والرمزي والروحي في العبادة.

 

•• بهذا يتجلّى كيف استطاعت فكرة المكان المقدس أن تتطور عبر الزمن، محتفظة بجوهرها الروحاني بينما تكيفت مع متطلبات الزمن والمجتمع ،،

 

•• المحراب في النصوص الدينية الإسلامية :

– لم يغب عن النص القرآني ذكر المحراب كمفهوم يرمز إلى مكان العبادة والتقرب إلى الله، إذ يُستشهد به في عدة قصص لأنبياء الله؛ منها:

 

• قصة زكريا عليه السلام:

يقول الله تعالى:

“فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌۭ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ”

حيث يُشار إلى المكان الذي كان يقيم فيه زكريا صلاته داخل المسجد.

 

• قصة مريم عليها السلام:

يقول الله تعالى:

“كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًۭا…”

مما يبرز الدور الروحاني للمحراب كمكان خاص للعبادة والتقرب إلى الله.

 

• قصة داوود عليه السلام:

يقول الله تعالى:

“هَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم إذ تسوروا ٱلْمِحْرَابَ…”

مما يدل على أن المحراب كان محط تركيز للتعبد والخلوة مع الله.

– تؤكد هذه الآيات على أن المحراب ليس مجرد عنصر معماري، بل هو رمز روحي يبرز مكانة العبادة والخصوصية التي تميز العلاقة بين العبد و ربه ،،

 

•• خاتمة:

استمرارية المحراب كرمز خالد

عبر آلاف السنين، ظل المحراب يتطور، لكنه حافظ على جوهره كدليل روحي داخل المعابد والكنائس والمساجد. إنه شاهد على تطور العقائد والهندسة، وملتقى بين التاريخ والتخطيط، والروح والمادة. ففي كل مرة يقف فيها إنسان أمام محراب، فهو ليس أمام حجر منحوت، بل أمام بوابة إلى عالم أسمى، حيث يلتقي الإنسان بالله، في صمت الركوع و السجود .. وسكينة الدعاء ،،

. أسأل الله التوفيق ،،

 التعليقات

 أخبار ذات صلة

[wysija_form id="1"]
إعلان خدماتي

إعلان بنك مصر

جميع الحقوق محفوظة لجريدة البيان 2015

عدد زوار الموقع: 80499994
تصميم وتطوير