محمد هجرس
لا شك بأن حياة كل إنسان تصلح لعمل روائي، ويكون هو الشخصية المحورية فيها، لذلك تؤثر أحداث حياة المبدع على مجريات الأمور في أدبه وشعره. ويقول الناقد الدكتور صلاح فضل رحمه الله إن السيرة الذاتية للكاتب من أهم العناصر الجوهرية في الكتابة الروائية، حتى وإن توارت ذاته وبدا بعيدا عن التورط في علاقات وحياة شخوص العمل وفضائها.
ومن خلال ذلك تقفز لدينا السلطة النافذة للمؤلف، وهو ما ينطبق على الشاعرة والأديبة الإماراتية صالحة غابش في روايتها الأخيرة “ورق الذكريات” الصادرة عن دائرة الثقافة بالشارقة، والتي تطرح الأسئلة حول الوجود والإنسان، والذات، والخوف، وذلك من خلال اللعب مع المفاهيم الدينية والثقافية، مع عدم نسيان المرحلة العمرية للراوية أو البطلة التي تعيش على ذكرياتها مع زوجها رجل الأعمال الذي انفصلت عنه، وتلتقيه ليلة زواج ابنتهما، ويرفض أن تعود وحدها للبيت، من خلال الصور والذكريات التي جمعت بينهما منذ الصبا، وتربط ذلك بذكرياتها مع والدها الذي كان مستشارها في أمورها الحياتية والشخصية، وهو ما يؤكد ان الحب ـــ مهما كانت الخلافات ـــ لا يموت، ويبقى قابع في دهاليز العقل، وبمجرد النظرة التي تأتي بلا ترتيب، تشتعل جذوته من جديد، لذلك تجاهد “آمنه” لمعرفة حقيقة ما يدور بداخلها وهل هي ما زالت تفتقد “سعيد” حبيب العمر وشريك الحياة، وهل النور الذي تحسه في نفسها بداية لعودة حياتها؟.
وتؤكد المؤلفة على أربعة شروط يختار الإنسان على أساسها شريك حياته، والشرط الأول هو إصرار المرأة على اختيار رجل صعب لتقلب مزاجه، والشرط الثاني هو المرأة العفيفة التي تضع كرامتها فوق كل اعتبار مهما كانت المكاسب التي ستجنيها، والشرط الثالث هو الوفاء المرضي للزوج والحبيب رغم الإحساس بالقهر، فيما الشرط الرابع والأخير هو إحساسها بأنها المنقذة لاعتقادها الراسخ بأن هذا الرجل دوماً بحاجة إليها.
وتتساءل الراوية في الصفحة الأولى من الرواية قائلة: “ما الذي يخيفنا من الذكريات؟ وما الوجع الذي تحمله ونريد أن ننفضه من الذاكرة؟”، وتجيب على تلك الأسئلة بأسئلة: “إحباطاتنا؟، أوجاعنا؟، آلامنا التي تشعرنا أننا أقزام؟، عزلتنا في حضور من يشعرون أنهم الأهم في الحياة، وأنتِ مثل الكلمة الوحيدة ذيلت في هامش بحث مهم؟”، وكلها أسئلة تبحث من خلالها الكاتبة عن الوجود وماهيته، لذلك قدمت روايتها بإهداء فلسفي وهو “إلى كل سردية تمنحنا الفرصة من الانتقال من سطر لآخر والبوح بما تخفيه السرائر”، وهي تيمة ممتدة منذ زمن الأولين فيودور دوستويفسكي ومارسيل بروست ميغيل دي ثيربانتس وبسكال وغيرهم.
واعتمدت المؤلفة في روايتها “ورق الذكريات” التي تقع في 128 صفحة، على تقنية الفلاش باك بعنصريه الداخلي والخارجي، وهي طريقة عرضت من خلالها كل الأحداث التي أرادت الكشف عنها من خلال تضفير حاضرها المرئي بماضيها البعيد، منطلقة منه إلى نقطة ضوء جديدة تقودها إلى المستقبل، وترتيب حياتها بشكل آخر يعتمد على بيئتها الثقافية والدينية وحبها لوالدها ووصاياه التي تحفظها عن ظهر قلب، وزياراتها اليومية له في المستشفى الذي يعالج فيه.
وتنتهي الرواية ــ البادئة بالتساؤلات ــ بعودتها لبيتها وتجاهل وجود زوجها سعيد الذي كان ينتظرها ويطلب العودة إليها، لكنها تنهض بقوة المرأة ـــ رغم أحزانها ـــ وتغلق باب الغرفة، وهو ينادي عليها: آمنة، آمنة دعينا نتحدث!!