الإثنين الموافق 07 - أبريل - 2025م

” رحلة الركوع والسجود ” .. تطور أفنية الصلاة على مر العصور

” رحلة الركوع والسجود ” .. تطور أفنية الصلاة على مر العصور

بقلم المهندس .. صلاح جنيدي

 

في كل دار للعبادة ( قلب) ينبض ،، هو ليس مجرد مساحة معمارية .. بل هو لوحة فنية روحانية تتمازج فيها تفاصيل العمارة مع الإيمان. “إنه الفناء” أو ” الصحن ” – ذلك الميدان الفسيح الذي يتوسط المعابد والكنائس والمساجد – و هو يُعَدُّ بمثابة الجسر الذى يربط ما بين الأرض والسماء، حيث تتلاقى تفاصيل العمارة الدقيقة مع نبض الروح الإيمانية ..

 

في هذه الرحلة، سوف نتتبع معًا تطور “الفناء” من بداياته الطبيعية إلى تصاميمه المتقنة التي ترتسم فيها عناصره وكأن كل منها ” نوتة” موسيقية ، في سمفونية روحانية رائعة لا مثيل لها !!

 

● الفناء في عصور ما قبل التاريخ: البساطة و النقاء ، والاتصال بالطبيعة :

▪︎ في عصور ما قبل التاريخ، كانت الطبيعة هي أول معبد للروح،،
– المساحات المفتوحة:
كانت الكهوف والغابات تمثل فضاءات لعبادات طبيعية ، لا تحتاج إلى تقسيمات معمارية ؛ إذ كان الانفتاح على الكون هو السبيل للتواصل مع القوى الكونية واللامحدودة.

– الجدران الطبيعية:
اعتمد الإنسان البدائي على الجدران الصخرية لتحديد فضائه الروحي، مما أكسب ” الفناء” طابعًا عضويًا وانسجامًا تامًا مع البيئة المحيطة، حيث كان كل شق من الصخور يحمل في طياته سر الخلق وروعة الطبيعة!!

● حضارات المعابد القديمة: – تنظيم المساحات والارتفاعات بلمسة إلهية :

▪︎ مع بزوغ حضارات مصر واليونان وروما، بدأت تتبلور مفاهيم جديدة في تصميم الفناء.
– تنظيم المساحات:
انتقلت الأفنية من كونها فضاءات عشوائية إلى أماكن منظمة بعناية، حيث وُضِعَت الجدران والأعمدة لتحديد نطاق العبادة بدقة، مع الحفاظ على انفتاح الفضاء الذي يسمح بتدفق الطاقة الروحية.

– الارتفاعات المهيبة:
استخدمت الحضارات القديمة الأعمدة والجدران المرتفعة لتوجيه الأنظار نحو السماء، في محاولة للتعبير عن الرغبة البشرية في الاقتراب من ( الماورائيات) ،، – كان الارتفاع هنا رمزًا للتواصل مع الإله ، ليصبح الفناء ملاذًا ترتفع به الروح فوق حدود المكان و الزمان .

▪︎ الكنائس والمعابد البوذية: رحلة التأمل والانسجام البصري

▪︎ في العصور الوسطى، تطورت “الأفنية” في الكنائس والمعابد البوذية لتصبح فضاءات شاسعة تعكس روح التأمل والسكينة.

☆ التفاصيل البصرية:
ازدانت الأفنية بنوافذ زجاجية ملونة في الكنائس، تكسر ضوء الشمس إلى ألوان تبعث على الدهشة والتأمل، بينما تُنسّق الأقواس والأعمدة لتكوين مشهد بصري يروي قصة الخشوع والتعبد.

☆ تنظيم الحركة والتأمل الجماعي:
في المعابد البوذية، تم تصميم الفناء ليُسهل تدفق المصلين ويخلق بيئة مناسبة لجلسات التأمل الجماعي، حيث تتداخل خطوط العمارة مع ضوء الطبيعة لتشكل لوحة متكاملة من الانسجام بين الإنسان والكون.

●● المساجد الإسلامية: قمة التناغم للفناء المعماري والروحاني :

– بلغ “الفناء – او الصحن ” في العمارة الإسلامية ذروته في التعبير عن وحدة الإنسان مع خالقه، حيث تتجسد الرمزية الروحية في كل تفصيلة معمارية.

☆ المساحات الواسعة والانفتاح الروحي:
يُصمم صحن المسجد ليكون قلب المكان الذي يستوعب أعدادًا كبيرة من المصلين، مع الحفاظ على توازن مثالي بين الانفتاح والخصوصية الروحية.

☆ الارتفاعات والأبنية المهيبة:
تُستثمر تقنيات الارتفاع في تصميم المساجد من خلال استخدام القباب والأعمدة العالية التي تُوجه الأنظار نحو السماء، مُضفيةً على الفناء إحساسًا بالاتساع والسمو، ليكون كل ركوع وسجود بمثابة رحلة نحو اللانهاية.

☆ النوافذ والفتحات:
تُوزع النوافذ بعناية لتسمح بدخول الضوء الطبيعي المتوازن، الذي يتحول إلى رمز للحضور الإلهي؛ فتُعيد أشعة الشمس رسم قصص من نور تتناغم مع تفاصيل الزخارف والنقوش الهندسية الدقيقة.

☆ المداخل والأقواس والبوابات الروحية:
تتزين المداخل في المساجد بأقواس مزخرفة، تعمل كبوابات عبور من العالم الدنيوي إلى عالم الروحانية؛ حيث يقف المصلون على عتبة اللقاء مع الخالق، ويشعرون بعظمة الرحلة الروحية التي تبدأ عند كل مدخل.

☆ الابتكارات المعمارية – الشخشيخة:
تُعد تقنية “الشخشيخة” من أروع الابتكارات في العمارة الإسلامية؛ إذ تُرفع أجزاء من السقف لتعمل كنافذة طبيعية تسمح بتوجيه الضوء وتدوير الهواء، مما يخلق بيئة داخلية متكاملة تجمع بين الراحة الجسدية والسكينة الروحية.

 

●● خاتمة: الفناء – سيمفونية الروح التي توحد الأرض والسماء

– إن الفناء أو الصحن.. في دور العبادة هو أكثر من مجرد مساحة معمارية ؛ هو سيمفونية من التفاصيل التي تتناغم لتخلق تجربة روحية متكاملة. من خلال تنظيم المساحات بعناية، و زيادة الارتفاعات لتصل إلى السماء، وتوزيع النوافذ لتسقط أشعة نورها على كل زاوية، وتنسيق المداخل والأقواس لتكون بوابات عبور إلى عالم الإيمان، يبرز الفناء كرمز خالد للتواصل بين الإنسان وخالقه.
في كل فناء، تتجلى رحلة الإنسان نحو السمو الروحي، حيث يتحول الركوع والسجود إلى لحظات من الخشوع العميق، ويصبح كل عنصر من عناصر الفناء بمثابة نغمة تُعزف في سيمفونية روحية تتجاوز حدود الزمان والمكان، لتوحّد الأرض والسماء في لقاء أبدي.

 

هذه الدراسة ليست مجرد سرد لتطور الفناء، بل هي احتفاء بالفن المعماري الذي يروي قصة الإنسانية في سعيها الدائم للاقتراب من الله ، حيث تلتقي كل التفاصيل لتشكل معًا لوحة فنية تبعث على السكينة والدهشة، وتدعو كل من يتواجد في فضائها ليعيش تجربة روحانية لا مثيل لها.

 التعليقات

 أخبار ذات صلة

[wysija_form id="1"]
إعلان خدماتي

إعلان بنك مصر

جميع الحقوق محفوظة لجريدة البيان 2015

عدد زوار الموقع: 80876666
تصميم وتطوير