تكشف متابعة تعليقات مواطنين أمريكيين حول دور بلادهم فيما يجري في منطقتنا عن درجة عالية من الفهم غير المسبوق لطبيعة السياسة الأمريكية تجاه منطقتنا وقضاياها، وجاءت جريمة تنظيم ” داعش” الإرهابي بحق واحد وعشرون مواطنا مصريا، ورد مصر بشن غارات جوية على مواقع التنظيم في مدن ليبية، لتدفع بالنقاش في وسائل الإعلام الأمريكية وتحديدا الموالية لليمين، وبين مواطنين أمريكان إلى دائرة غير مسبوقة، دائرة التشكيك في نوايا بلدهم وسياسات رئيسهم، واتهامات صريحة لباراك أوباما بالتهرب من إدانة جرائم التنظيم المتطرف، بل وعدم التأثر بنحر واحد وعشرين مواطنا مصرية فلم يصدر عن الرجل أي تعليق حول الجريمة بل إنشغل في ممارسة لعبة ” الجولف” في وقت بادرت فيه مصر بشن غارات جوية على مواقع التنظيم وحصلت على دعم قوى ومباشر من دول عدة منها روسيا الاتحادية وفرنسا وإيطاليا. يثير موقف أوباما وإدارته تجاه جرائم داعش وتحديدا التي وقعت في ليبيا بحق مواطنين مصريين أبرياء، تساؤلات عدة تتجاوز الوقائع إلى الفكر والرؤية، بل وتدخل في منطقة المسؤولية عن الظاهرة والتي تعود إلى عقود عدة خلت وتحديدا في زمن الحرب الباردة.
يغضب بعض الليبراليين المصريين والعرب عندما نكتب عن مسؤولية الولايات المتحدة في صناعة الإرهاب الدولي وتحديدا الجماعات المتشددة، ويرى بعضهم أن مثل هذه الكتابات وتلك الآراء فيها تجن شديد على الولايات المتحدة. عندما كتبنا ذلك كنا نكتب من منطلق الباحث المصري الذي درس تاريخ العلاقات الدولية قديمه وجديده، درسنا الغزو السوفييتي لأفغانستان واستقينا معلومات مباشرة من مسؤولين في الخارجية الأمريكية عام ١٩٩٦ عندما ذهبت إلى واشنطن في إطار برنامج ” الزائر الدولي” حيث وجهت سؤالا مباشرا لمسؤول في الخارجية الأمريكية خلال هذه الزيارة عن كيفية دخول عمر عبد الرحمن الأراضي الأمريكية، وقلت له أننا نعاني في العالم العربي ومصر تحديدا من ظاهرة العائدون من أفغانستان، تلك الظاهرة التي صنعتها الولايات المتحدة الأمريكية ضمن حربها بالوكالة ضد القوات السوفييتية في أفغانستان، فرد الرجل بكل هدوء ووضح قائلا أن هزيمة القوات السوفييتية في أفغانستان كانت بداية إنهيار الاتحاد السوفييتي، وهو هدف أمريكي استراتيجي، أما فيما يخص تداعيات ذلك عليكم وعلى غيركم من الدول فهو أمر لا يخصنا قالها بوضوح ” we do not care “.
وما فائدة الجدل حول هذه القضية وقد أقرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون بذلك في شهادة لها أمام إحدى لجان الكونجرس، قالت نعم نحن ساهمنا في تشكيل جماعات متشددة في أفغانستان، كانت نواة لتنظيم القاعدة، وذلك لمحاربة القوات السوفييتية في أفغانستان. وربما أقول ما هو أكثر من ذلك أن الولايات المتحدة لم تتوقف عن إنتاج هذه البضاعة بعد ذلك، فواصلت العمل بنفس الوتيرة في البلقان، البوسنة وكوسوفو، لاعتبارات تتعلق بتفكيك يوجوسلافيا وتصفية النظام الصربي عام ١٩٩٩.
فقط بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، إيقنت واشنطن خطورة اللعبة، فتوقفت عن إنتاج المزيد من هذه البضاعة، ولكنها سرعان ما عادت إلى انتاجها مجددا في سياق التحضير للربيع العربي وادارته، وهو ما اسقطته مصر شعبها وجيشها في ثورة ٣٠ يونيو وخلطت الأوراق الأمريكية مجددا، فاضطربت السياسة الأمريكية بشدة وأخذت في توزيع الاتهامات يمينا ويسارا، وهي المسؤول الأول عن كل هذه الجرائم.
والحقيقة أن التنظيمات الإرهابية المتشددة بصفة عامة هي منتجات أمريكية بشكل مباشر وغير مباشر، وبمشاركة من جانب عدد من الدول العربية. وإذا كانت بريطانيا العظمى المسؤول الأول عن إنتاج ودعم جماعة الإخوان المسلمين، فأن الولايات المتحدة الأمريكية هي المسؤول الأول عن إنتاج ورعاية التنظيمات الإرهابية والتي بدأت في عام ١٩٧٩ عقب الغزو السوفييتي لأفغانستان، فقد حدث ذلك في أوج مرحلة الحرب الباردة وفي قمة المواجهة بين المعسكرين الشرقي والغربي، هنا قررت الاستخبارات الأمريكية إثارة العامل الديني في نفوس الشباب المسلم، أرادت محاربة السوفييت في أفغانستان، فقررت أن يكون الشباب المسلم هو أداة المواجهة ووقود الحرب هناك.
بدأت الاستخبارات الأمريكية في الترويج لمقولة أن الغزو السوفييتي لأفغانستان هو غزو من دولة محلدة لشعب مؤمن، وأنه لابد من تحرير أفغانستان من الغزو السوفييتي.
وأبرمت الصفقة بين المخابرات الأمريكية والسعودية برئاسة كمال أدهم والرئيس المصري أنور السادات والباكستاني ضياء الحق، تعاونوا في تشكيل تنظيم ” المجاهدون الأفغان” جمعوا الشباب المسلم من دول عربية وإسلامية، أمدتهم واشنطن بالسلاح المتطور بما في ذلك صواريخ أرض جو متطورة للغاية من طراز ” ستينجر” لم تقدمها واشنطن لأقرب حلفائها، ولعبت دورا كبيرا في الحد من دور الطيران السوفييتي. وعندما انتهى الأمر بهزيمة القوات السوفييتية هناك وقرر الرئيس السوفييتي آنذاك ميخائيل جورباتشوف سحب قواته من أفغانستان، فأوقفت واشنطن نشاطها وقررت مغادرة المنطقة تاركة المجاهدين يتصارعون ويتقاتلون ويقتلون بعضهم بعضا حتى ظهرت حركة طالبان ( طلبة المدارس الدينية الذين درسوا قي باكستان) وسيطرت على المشهد واستضافت تنظيم القاعدة حتى وقعت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، فقررت واشنطن غزو أفغانستان.
لم تتعلم واشنطن الدرس وكررت التجربة في البوسنة وكوسوفو، وظهرت جماعات العائدون من أفغانستان، باكستان، البوسنة، الشيشان وكوسوفو.
وفي إطار الترتيب لما سمي بالربيع العربي، وضعت واشنطن يدها في يد أم الجماعات المتطرفة ومصدرها الرئيسي، جماعة الإخوان، ساعدت في تدفق المقاتلين إلى مصر، ليبيا، سوريا والعراق في محاولة لتغيير خريطة المنطقة بالكامل، ولعبت تركيا الدور المحوري في رعاية واحتضان تنظيم ” داعش” لحسابات تتعلق بحلم الخلافة والاطماع العثمانية في أراض سورية وعراقية، وتولت قطر عملية التمويل.
سيطر التنظيم على مناطق واسعة من العراق وسوريا، وتم الدفع به إلى ليبيا للتعاون مع الجماعات الإرهابية هناك، فأعلن تنظيم ” أنصار بيت المقدس” الولاء لداعش، وكذلك فعلت تنظيمات ليبية، وجرى الترتيب لفتح جبهة مع مصر وجاءت جريمة ذبح واحد وعشرون مواطنا مصريا في محاولة لإهانة الدولة المصرية وشعبها، ومن هنا جاء الرد المصري السريع والحاسم وجاء التحرك السياسي على الصعيد الدولي ليضع التنظيم ومن ورائه في موقف حرج، فلم يجد أوباما لديه من الشجاعة والقدرة على ضبط الأعصاب لتقديم عزاء شخصي للمصريين، كما لن يجد أي غطاء سياسي أو أخلاقي لاستخدام الفيتو في مواجهة مشروع قرار مصري متوقع في مجلس الأمن لشرعنة العمل العسكري ضد داعش ليبيا.
قدر مصر أن تواصل دورها التاريخي كصخرة تتحطم عليها أحلام السيطرة والهيمنة، وفي تقديري أن مصر بدأت الخطوة الأولى للقضاء على داعش ليبيا وسوف يكون ذلك مدخلا للقضاء على التنظيم في العراق وسوريا ومن ثم إفشال مخطط توظيف ” الربيع العربي” في تفتيت المنطقة.
قفزة جديدة في أسعار الذهب بمصر اليوم الأربعاء 5 فبراير 2025
5 فبراير 2025 - 4:41ص
التعليقات