قامت الثورة منذ نحو أكثر من اربع عشر عام لتتخلص مصر من نظام حكم الحزب الواحد الدكتاتوري، وفكرة توريث السلطة والفساد المالي، وتحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين على أرض مصر.
وظهر شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية”، والحقيقة أننا نحن العرب ما إن نتلقف شعارا، حتى نسرف في استهلاكه إلى أن نفرغه من معناه ومضمونه. واليو ما الذي مازال يعطل تحقيق دفع عجلة الإنتاج والنهوض بالاقتصاد المصري حتى الآن، وخاصة وأن الوضع الاقتصادي العام قبل الثورة تمثل في احتياطي نقدي كان قد بلغ 35 مليار دولار. ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي كان قد قارب 8%، وما كان يعاب عليه في ذلك الحين، وهذا حقيقة سوء التوزيع الدخل القومي وثمار النمو، حيث كانت تستهلك القلة ولا تستهلك الكثرة. أي النخبة المحيطة بالسلطة هي التي كانت تجني ثمار التقدم الاقتصادي دون غيرها وعرفت مصر بمجتمع “أصحاب الملايين” بل المليارات.
وظلت مصر بعد منذ ذلك الوقت مع وجود رئيس منتخب تنتهج ” سياسة رتق الثوب ” أي نستهلك اليوم عسى أن يرزقنا الله بالخير، فتستهلك غداً. وهذا علاج للمشكلة الاجتماعية فقط في ظل ظروف ثورية واقتصادية ضاغطة على إدارة البلاد والحكومة الحالية. الأمر الذي يدفع بالاقتصاد المصري إلى منعطف خطير. ونرى هنا أيضاً أن الحل الاقتصادي العلمي المجرد وحده لا يكفي لأنه يتطلب أن لا نستهلك اليوم لكي نستهلك غداً، لتعيش الأجيال القادمة في رخاء.
و لكن الشعب بعد الثورة لن ينتظر، فالثورات تختصر عجلة الزمن لتنقل الشعوب إلى حياة أفضل. وهنا يأتي دور الإدارة والحكومة الرشيدة في وضع خطة اقتصادية متكاملة لمستقبل مصر بعد الثورة يتوازى فيها التقدم الاقتصادي والاجتماعي جنباً إلى جنب، وأن نؤمن بأن كلا منهما يدعم الآخر. ثم انتقلنا إلى لا نستهلك اليوم و ندعم التنمية وتعديل عجز الموازنة و ربع الضرائب على كل قطاعات الشعب ، لكي نستهلك غدا البعيد جدا.
لذلك يجب أن ننبه أيضاً إلى التعارض المرحلي بينهما، كما سبق الذكر، حيث أن متطلبات كل منهما قد تتعارض، في المدى القصير، مع متطلبات الآخر، وهو ما يستلزم منا بداهةً الحذر الشديد في معالجة كل من المشكلتين الاقتصادية والاجتماعية، مما ينبغي لحل المشكلة الاجتماعية أن يعقد من المشكلة الاقتصادية، بالتهام مخصصات الاستثمار وضرب بواعثه، لأن ذلك يعني ببساطة أن نستهلك اليوم وألا نستهلك غداً، كما لا ينبغي لحل هذه المشكلة الاقتصادية أن يعقد من المشكلة الاجتماعية بالتهام مخصصات الاستهلاك الشعبي ويضرب بواعث العمل، لأن ذلك يعني ببساطة أن تستهلك القلة وألا تستهلك الكثرة كما كان قبل الثورة. إن علينا أن ندرك نقطة التوازن بين الحلين، بين متطلبات الاستهلاك ومتطلبات الاستثمار، بين الاستهلاك اليوم والاستهلاك غداً، بين بواعث العمل وبواعث الاستثمار، بين رفع الأجور وتوفير فرص جديدة للعمل المنتج لاستيعاب جموع البطالة الشبابية في مصر.
ومع هذه المحاذير، فإن قضية ارتفاع الأجور، وهي مطلب شعبي ضرري نوليه كل اهتمامنا، لن تجد حلها الحاسم المطلوب إلا في ضوء ما يتحقق من تقدم اقتصادي عادل. إن المنطق الاقتصادي السليم يقتضي أن ترتفع الأجور بقدر ما ترتفع به إنتاجية العمل، وبقدر ما يسمح به ارتفاع الناتج القومي، الذي تستمد منه هذه الأجور، والذي يضمن عرض السلع والخدمات اللازمة لمواجهة الارتفاع في الأجور. وبغير هذا المنطق الاقتصادي فإن الارتفاع في الأجور، وهو مطلب مشروع نحرص عليه جميعاً، سيؤدي بالضرورة، مع عدم كفاية الناتج القومي، إلى ارتفاع الأثمان ارتفاعاً تضخمياً، ينتهي بأن يفرغ أي ارتفاع في الأجور من مضمونه. وهذا ما نفعله منذ قيام الثورة وحتى الآن للحد من التظاهر والاعتصام، دون أن نواجه المشكلة الحقيقية الهيكلية.
فليس هدفنا يقيناً هو مجرد رفع الأجور النقدية مع إطلاق العنان لارتفاع الأسعار والتضخم، مما يدخلنا في حلقة مفرغة. بل إن الهدف الذي نحرص عليه هو رفع الأجور الحقيقية، لأن ذلك وحده هو الذي يضمن ارتفاع مستوى معيشة الطبقات ذات الدخول المحدودة، التي تمثل القاعدة العريضة من شعب مصر. وليس معنى ذلك أن نقف مكتوفي الأيدي إزاء مشكلة تدني الأجور وانخفاض مستوى المعيشة إلى أن يتحقق الارتفاع المطلوب في إنتاجية العمل وفي الناتج القومي على المدى الطويل. بل إن علينا أن نسرع في تحقيق عدالة توزيع الدخل القومي، بما يدعم مستوى معيشة الغالبية العظمى من الشعب، وبما لا يضر بمتطلبات التنمية الاقتصادية، وبما لا يمس الثروات المشروعة.
وهو ما يتطلب عقدا اجتماعيا بين الحكومة والمستخدم والمنتج لفترة لا تقل عن ثلاث سنوات، يتفق فيها جميع الأطراف على ما يعرف ” بالأجر العادل، والثمن العادل، والربح العادل “للخروج من تلك الأزمة الاقتصادية المرحلية بعد الثورة.
وفي النهاية الحل الاقتصادي الصواب في رأيي هو أن نبدأ فوراً في علاج “المشكلات الاقتصادية الهيكلية ” دون أن نسقط من حساباتنا ” المشكلات الاقتصادية التابعة ” التي نشأت قبل الثورة وعلقت أثارها حتى الآن في بنيان الاقتصاد المصري، والتي نراها كل يوم من زيادة في الأسعار وارتفاع في عجز الموازنة والميزان التجاري وميزان المدفوعات وإرتفاع معدلات البطالة. الخ، إلا أن علاج المشكلات الهيكلية وإن كان قد يمتد من ثلاث إلى خمس سنوات، فإنه سوف يقضي تلقائياً على المشكلات التابعة التي لا يرى غيرها المواطن العادي، ولكن بالصبر والعمل والإخلاص للوطن سوف تتقدم مصر وتحقق أهداف الثورة ” عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية ” فليس بالشعارات والنيات الطيبة فقط تبنى الدول المتقدمة، بل بالعمل والإنتاج والانتماء إلى هذه الأرض الطيبة…
التعليقات