بقلم : أ.د . “عوني قنديل ” أستاذ الإعلام وتكنولوجيا الإتصال”
لم تكن المجتمعات العربية قادرة على تجاوز الإنتكاسات التي تعرضت لها بسبب موجة الإرهاب المتعاقبة والتي أسهمت في تفكيك بنية المجتمع العربى ، الأمر الذي أدى إلى تعزيز شعور الإنسان بالعزلة والإغتراب عن المجتمع ، فما كان منه إلا اللجوء إلى الطقوس والعادات القديمة باحثاً فيها عن كل مايمكن ان يعيد الطمأنينة إلى نفسه ويجعله قادراً على تجاوز الصدمة، ولم يكن المسرح بمعزل عن ذلك، فقد جاءت تجربة المخرج تامر كرم (يوم أن قتلوا الغناء ) للتعبير عن حجم الكارثة التي وقعت على الإنسان فى مجتمعاتنا العربية
الأمر الذي دفع به إلى صناعة مسرحاً مغايراً لما هو سائد في حركة المسرح العربى المعاصر ، وقد تنوعت التجارب المسرحية لتامر كرم والتي انتهجت هذا الأسلوب وعلى الرغم من ازدهار هذا النوع المسرحي في النصف الثاني من القرن العشرين – لاسيما مايتعلق بإعادة إنتاج الطقوس الدينية والعمل على تحويلها إلى طقوس مدنية واجتماعية- إلا أنها ظلت تستهدف مشاركة الجمهور في صناعة العرض ،كما في تجربة (هنا أنتيجون ) وغيرها في حين ظل المسرح في مصر يفتقر إلى هذا النوع المسرحي مع استثناءات بسيطة لم تشكل ظاهرة يمكن رصدها،،إذ عمد المخرج فى ” يوم أن قتلوا الغناء ” إلى إيجاد صيغ غير تقليدية في منظومة التلقي تنسجم مع الفطرة الإنسانية ، وتأتي تجربة المخرج (تامر كرم ) في مسرحية (يوم أن قتلوا الغناء ) التي يقدمها هذه الأيام على مسرح الطليعة رائدة فى مجال المسرح العربى وتساهم بشكل كبير فى مواجهة الفكر الإرهابى والمتطرف الذى يصطدم دائماً بالسلوك الإنسانى والعاطفة الوجدانية
إن العلاقة التي عمل المشاركون فى العرض على تأسيسها مع المتلقي ترجع إلى إمتلاك كل ممثل لأدواته التمثيلية بشكل ملحوظ وسليم وبإحترافية تجل عن النظير ، لقد صنعوا جميعاً أشكالا مغايرة للتلقي ، بمعنى آخر فقد أفاد المسرح المصرى فى ” يوم أن قتلوا الغناء ” من تغيير شكل المسرح ويناء صورة ذهنية مغايرة لما هو موجود ، ذلك ان فكرة التعاطي مع الطقوس والمعتقدات محفوفة بالمخاطر ولايمكن المساس بها، وذلك لارتباطها بالمعتقدات الدينية ،الأمر الذي دفع بالعديد من المخرجين إلى اعتماد النصوص التى تقع خارج حدود (السلطة الدينية)، إلا أننا اليوم أمام تجربة مسرحية تغاير المألوف في مواضع عدة تأتي في مقدمتها الإفادة من الأفكار المتوافرة في المعتقدات القديمة وتوظيفها في عرض مسرحي حمل عنوان (يوم أن قتلوا الغناء ) بطولة د. علاء قوقة ، ياسر صادق ، حمادة شوشة، طارق صبرى، هند عبد الحليم، محمد ناصر، أداء صوتى للنجم نبيل الحلفاوى، موسيقى أحمد نبيل، ديكور د. محمد سعد، ملابس مروة منير، تعبير حركى عمرو باتريك، إخراج تامر كرم ، ومن تأليف محمود جمال. يقدم العرض بمسرح الطليعة بالعتبة يومياً ما عدا الثلاثاء من كل أسبوع
* المعالجة النصيّة للمعتقدات الإجتماعية
تنوعت اشتغالات فريق العرض على المتن النصي إبتداءً من العنوان الذي يحتكم على مضامين متداولة في الذاكرة الجمعية ، وقد أفاد المخرج من الفكرة المتوافرة فيها وعمل على تحويلها إلى رمز للكراهية داخل المجتمع ،
بمعنى آخر فقد حاول فريق العرض إلى ربط (النحس والشر) الواقع على المدينة إلى وجود (سلبا ) في بيئتهم وهذا جعلهم متصارعين وغير قادرين على التواصل مع بعضهم، الأمر الذي انتفت فيه فكرة (الشر ) وتحول فعل (سلبا ) إلى سلوك جماعي تم إنتاجه داخل المجتمع بفعل الصراعات المختلفة التي أطاحت بالبنية الإجتماعية، وتأتي أهمية الإشتغال النصي على هذه الفكرة في إشراك جميع الأطراف في تبني فكرة” مدى” وهو المعنى المعكوس لأدم لمواجهة أفعال ” سلبا” وهو المعنى المعكوس للشيطان
من جهة أخرى فقد أنتج الاشتغال المتعدد على المتن النصي إلى تباين في المعنى على مستوى اللغة أو الفكرة التي تم تقسيمها إلى أقسام عدة يكشف النص فيها على ان (سلبا ) هو سلوك اجتماعي ينتهجه بعض الأفراد فيما بينهم سعياً وراء تفكيك البنية الإجتماعية ، فضلا عن ذلك فقد تنوعت الحكايات داخل النسق النصي وتنوع أسلوب روايتها ، حيث اختار فريق العرض التعاطي مع منظومة سردية تنسجم مع الفكرة ، الأمر الذي لم يقتصر فيه السرد على الملفوظ اللغوي بل تعداه إلى تعبيرات لالفظية من اجل إيصال الفكرة ، ويعود ذلك إلى إشتراطات الكتابة النصية نفسها،
* التعدد المكاني في العرض المسرحي :
يعد (مسرح الطليعة ) بوصفه معماراً مكانياً قادراً على إنتاج فضاءات جمالية متفردة ، ذلك ان التجارب المسرحية التي تم تقديمها منذ تأسيسه تدل على ذلك وتؤرخ له ، وتأتي تجربة (تامر كرم ) الإخراجية لتدخل في منظومة عروض مسرحية سابقة عملت على تهشيم مركزية المكان والإفادة من التعدد المكاني الذي يتوافر في المسرح
عمد المخرج ” تامر كرم” إلى التعامل مع المكان عن طريق فريق عمل لم يدخر جهداً في إكتشاف فضاءات جديدة تضاف إلى فضاءات المسرح ، إذ لم يقتصر الأمر على الباحة الوسطية والغرف الجانبية والطابق العلوي بل تعداه ليشمل السلالم الأمامية والتي أدخلت المتلقي فى العرض حتى وإن لم يدخل فيه.
*الأداء الوظيفي والشكل البصري :
كشفت الإشتراطات التي ينتمي إليها (فن العرض) عن أساليب أدائية مختلفة ، تعتمد السلوك الوظيفي في الأداء أكثر من الإعتماد على جماليات الملفوظ اللغوي أو التعبير الجمالي، الأمر الذي بدا واضحاً في عرض (يوم أن قتلوا الغناء ) إلا ان ذلك لم يمنع من توافر العرض على لمحات جمالية على مستوى الأداء الجماعي التعبيري ، لاسيما المشاهد التي توافرت في أول العرض المسرحي وماتحتويه من مشاهد حركية كشفت عن الفكرة الأساسية للعرض وعن سيطرة (سلبا ) على المدينة، وقد بدا ذلك واضحاً عن طريق إحتكام الممثلين على سلوك تعبيري يتسم بالقسوة على الآخر
، فضلا عن ذلك فقد امتلك الممثلين قدرات أدائية إمتلكت حضورها ، لاسيما الممثل ” علاء قوقة ” الذي استطاع السيطرة على أدواته التعبيرية
، كما أن أداء الممثل (طارق صبرى ) كان مثيراً من جهة قدرته على اختزال الحركة من اجل إثارة انتباه المتلقي والسيطرة عليه ، وقد امتلكت الممثلة (هند عبدالحليم ) سلوكاً أدائياً متميزاً في التعبير عن فكرة مواجهة العنف الذي يجتاح البلاد،
ويعد فريق التمثيل من مكتسبات هذا العرض الأدائية ، سواء في المشهد الحركي الاستهلالي أو في كل مشاهد العرض المسرحى
من جهة أخرى فإن الممثلين كانوا يوظفون أدواتهم التمثيلية بشكل فاعل وجاد ، ذلك ان المشاهد التي قاموا بتجسيدها تحتكم على أفكار مثيرة ، وهذا جعل الأداء أكثر من رائع ، كما في أداء الممثلة (هند عبدالحليم ) . حيث كان المشهد ينطوى على فكرة مهمة تتمثل في معاناة المرأة فى مجتمع ظالم ورافض لكل ما هو جميل ، لذا جاء أداؤها التمثيلي يرتق إلى مستوى الفكرة ، فضلا عن ذلك فإن مشهد (السفينة ) كان معبراً جداً عن طوق النجاة للخروج من فكرة الظلامية التى إنتشرت بعد الثورات العربية من خلال الأفكار والمعتقدات الدينية الخاطئة لدى البعض والتى لا تسمح للأخر بالحوار أو ممارسة الطقوس الحياتية كما ينبغى لتعمير الأرض
يقولون أن (فن العرض) يسمح بالتعبير عن الفكرة من دون ضرورة لوجود الممثل ،
وفى إعتقادى وجود الممثل مهم وضرورة ملحة لتوصيل الفكرة لكونه قائماً بالإتصال وأحد أدوات التأثير المهمة
كما أن المخرج تفاعل بشكل ملحوظ مع قدرة الممثل ( علاء قوقة ، طارق صبرى ،ياسر صادق ) الأدائية والتي عمد إلى إظهارها في مشهد يجمع ما بين عالم الوهم والحقيقة حيث أن شخصية “أريوس” ترى أشباح من قتلهم مع أن الشخص الحقيقى الموجود كان “سلبا” وهى الشخصية التى كان يجسدها الدكتور الفنان “علاء قوقة” ولذلك كان يحتاج المشهد إلى ممثلين من الطراز الفريد ، ويأتي المشهد الأخير تعبيراً مجازياً عن أوجاعنا وأحلامنا المجهضة ومستقبلنا المجهول ، عبر أداء جماعي تعبيري يستحق الثناء. كان العرض منتظماً بشكل كبير على مستوى التشكيل البصري وهذا يدل على إنسجام كامل فى أدوات العرض وإحترافية لا مثيل لها فى إنتظام الحركة على المسرح
التعليقات