كتبت محمد الأمبابي
تبلورت السياسة والدبلوماسية على مدى القرنين الماضيين، فبعد أن كانت الحرب ولغة القوة هي السائدة لتعبر عن مصالح دولة تجاه أخرى، أصبحت الدبلوماسية والعقوبات هي المحور الأهم في النزاعات بين الدول وإذا لم تكن تمتلك العقوبات كالولايات المتحدة الأمريكية فلابد أن تمتلك السياسة والكياسة حتى تقتنص المصالح الخاصة ببلدك مع أول فرصة تسنح بذلك، أردوغان بلا منازع يثبت للعالم إنه رجل سياسي على المستوى الخارجي وإنه قادر على التلاعب واقتناص الفرص.
منذ صعود أردوغان للحكم هو وحزبه وهم قادرين على اللعب مع القوى المختلفة بطرق مختلفة، فحين تتحدث تركيا للعرب، تقوم بتصدير وجه المدافع عن القدس وفلسطين، بالرغم من أن الفعلي إن تركيا لم تقدم يوما ربع ماقدمت مصر للقضية الفلسطينية، لكن تركيا تستطيع التجارة بالقضية سياسيا أكثر من رعاة القضية نفسهم.
وإذا تحدث أردوغان لإسرائيل تحدث عن التجارة والعلاقات الإقتصادية الهامة والشراكة بينهم وهو مايتنافي مع خطابه الأول عن فلسطين ودعمه الحق الفلسطيني، وإذا حل ضيفا في أوربا فلا صوت يعلو فوق صوت الحريات وحقوق الإنسان، أما في الداخل فالويل والثبور للمعارضين ولاحقوق لهم بل سجون فقط، هو مراوغ لاشك في ذلك ولكنه بمراوغته يستطيع كسب مصالحه بلا منازعات عسكرية أو حروب دموية والأزمة السعودية تكشف تعامل تركيا النفعي والتي خرجت منه حتى الأن فائزة بمنافع جديدة لتركيا وللمواطن التركي.
بدأت الأزمة يوم 2 أكتوبر باختفاء جمال خاشفقجي وخرج التصريح التركي يوم 3 أكتوبر يؤكد تواجد جمال داخل السفارة دون تفاصيل أكثر، لتصمت تركيا وتترك الخيط للجانب السعودي الذي هرول دفاعا عن نفسه عبر تصريحات رسمية أيام الرابع والخامس من أكتوبر، قبل أن تُحرك تركيا الأحداث مرة أخرى للأمام وللسخونة بإعلانها في السادس من أكتوبر ترجيحها مقتل جمال داخل السفارة، وتتوالي المعلومات والتسريبات التركية من يومها بخصوص الحادث ونشر أدلة على تورط السعودية على طريقة كل يوم معلومة وهو ماضمن تواجد الأخبار بشكل يومي في كبرى وكالات الأنباء عن القضية اللغز وكسب متابعين جدد للقضية، لكن هدف تركيا لم يكن السعودية قدر ماكان اهتمامها على التواصل مع الولايات المتحدة عبر هذه القضية، بل وقدمت لواشنطن كافة التفاصيل فأبدت التعاون التام بالرغم من أن الواقع يقول إن تركيا وأمريكا كانتا على خِلاف كبير بسبب أزمة القس الأمريكي(برونسون) الذي تم الإفراج عنه في خضم الأحداث بطريقة لم تنال التغطية الإعلامية التي تستحقها بعد أن تسبب هذا القس في فرض عقوبات وتضييقات على الإقتصاد التركي أدى لانهيار الليرة التركية، فالأهم الأن للعالم هي قضية الصحفي المختفي جمال خاشقجي، وطوال الأحداث وتركيا ترتدي ثوب المخلص والمدافع عن الحقوق وهي في الحقيقة لم تُدافع سوى عن حقوقها، فاستخدمت السياسة والحنكة السياسية في عودة العلاقات مع أمريكا والضغط على السعودية التي اعترفت بمقتله داخل السفارة خلال مشاجرة، وهو ماأعقبها تقارب أكثر من ذي قبل بين تركيا والسعودية وأمريكا.
لابد أن لانترك هذه القضية دون التعلم منها، فالقوة لاتفيد مادام لايوجهها عقل حكيم، يُدرك أن العقل أم من القوة وأن القوة الحقيقية هي قوة العقل والاستفادة من المواقف المختلفة بطرق مختلفة، والعقل هو من يوجه أمريكا اليوم لإنهاء القضية حفاظا على مصالحها مع السعودية أكبر حلفائها في مواجهة النظام الإيراني الخطير، فترامب وإدارته يحاولان الهروب من الضغط السياسي للجمهور الأمريكي وأعضاء الكونجرس، حتى لاتضيع صفقة الأسلحة الكبيرة التي ستذهب أموالها لجيوب أمريكا وهو أيضا رجل يبحث عن منفعة بلاده ومواطنيه.
الأزمة الأخيرة تؤكد على أنه لاعدو دائم ولا صديق دائم في عالم السياسة والعلاقات الدولية بل هي علاقات مصالح وقدرة على الضغط وانتزاع المكاسب بالدبلوماسية والحوار والمراوغة أحيانا أخرى وليس بالتصريحات العنترية الفارغة والحشد الشعبي الداخلي.
التعليقات