Site icon جريدة البيان

المنبر .. ذلك العنصر المعماري المهيب

 

صلاح جنيدي .. رئيس هيئة الأوقاف الأسبق

 

ذلك العنصر المعماري المهيب ،،

• لم يكن المنبر مجرد منصة مرتفعة يعتليها الخطيب لإلقاء الكلمات ، بل كان – عبر العصور – حلقة وصل بين الأرض والسماء ، ومنارة تهدي العقول والأرواح.. فلم يكن تطور المنبر تطورًا ماديًا فحسب، بل كان شاهدًا على تحولات الفكر والعقيدة، ومُعبّرًا عن قدسية الخطاب الديني وتأثيره على المجتمعات.

 

• ما هو المنبر ؟؟

المنبر في أبسط تعريفاته هو مكان مرتفع يُستخدم لإلقاء الخطب والمواعظ الدينية، وغالبًا ما يكون في دور العبادة. لكنه يحمل في طياته دلالات أعمق؛ فهو منصة للبلاغ والنصح والإرشاد، وهو رمز للسلطة الروحية والدينية التي توجه الجماعات وتقودهم نحو المبادئ والقيم العليا.

 

• الوظيفة المادية والمعنوية للمنبر :

 

– وظيفته المادية: تسهيل رؤية وسماع الخطيب من قبل الجمهور، وضبط النظام أثناء الخطاب.

 

– وظيفته المعنوية: نقل الرسالة الدينية، وتأثيرها العاطفي والروحي على المستمعين، وترسيخ العقيدة والمبادئ الأخلاقية في النفوس.

 

تطور المنبر عبر العصور :

1- المنبر في عصور ما قبل التاريخ :

– في المجتمعات البدائية، كان الزعيم أو الكاهن يصعد على مرتفع طبيعي أو صخرة ليُخاطب الجماعة، حيث لم تكن هناك مبانٍ مخصصة لذلك. وكانت هذه الأماكن تُعتبر مقدسة، إذ ارتبط الارتفاع في المخيال الإنساني بالقرب من القوى العليا، سواء كانت آلهة أو أرواحًا سماوية.

 

2- المنبر في المعابد الفرعونية :

– في مصر القديمة، لم يكن هناك “منبر” بالمعنى التقليدي، لكن الكهنة كانوا يلقون تعاليمهم من منصات داخل المعابد، مثل تلك الموجودة في معبد الكرنك أو الأقصر، حيث كانوا يعتلون درجات أمام المسلات والصروح العظيمة لإلقاء النصوص المقدسة على الجموع. كانت هذه المنصات تعكس قدسية الكهنة باعتبارهم وسطاء بين البشر والآلهة.

 

3- المنبر في المعابد اليهودية

– في المعابد اليهودية، ظهر ما يُعرف بـ “البيما” (Bema)، وهي منصة مرتفعة يُقرأ منها التوراة أمام المصلين. كان البيما رمزًا لمكانة الشريعة ودورها المركزي في حياة الجماعة، وأصبح فيما بعد جزءًا لا يتجزأ من العمارة الدينية اليهودية.

 

4- المنبر في الكنائس :

– مع ظهور المسيحية، تطورت فكرة المنبر ليصبح جزءًا أساسيًا من الكنيسة، يُعرف بـ “المنصة” أو “الدكة” (Pulpit). غالبًا ما كان القساوسة يقفون على منصة خشبية أو حجرية لإلقاء العظات. وكان ارتفاعها يرمز إلى سمو الكلمة الإلهية، وكان شكلها يتطور عبر العصور ليشمل زخارف ونقوش تعكس أهمية الخطاب الكنسي.

 

5- المنبر في المساجد :

البداية: من جذع النخلة إلى المنبر المشيد

– في الإسلام، بدأ المنبر ببساطة متناهية، حيث كان النبي محمد ﷺ يخطب مستندًا إلى جذع نخلة، ثم صنع له الصحابة منبرًا بثلاث درجات، وهو النموذج الأول للمنبر الإسلامي. وكان الهدف منه أن يُرى ويسمع خطابه بوضوح.

 

▪︎ من الصخرة إلى المنبر: خطبة الوداع :

 

– في حجة الوداع، صعد النبي ﷺ على صخرة عالية بجبل عرفات واتخذها منبرًا، مما يعكس رمزية الارتفاع كعلامة على أهمية الرسالة التي يلقيها، ودلالة على قدسية اللحظة التي يخاطب فيها الأمة جمعاء.

 

• تطور شكل المنبر في الإسلام

 

– في العصور الأموية والعباسية، بدأ المنبر يُبنى من الخشب ويزخرف بالنقوش الإسلامية.

 

– في العصر المملوكي والعثماني، تطور المنبر ليصبح تحفة معمارية من الرخام والخشب المزخرف، وأصبح رمزًا للهيبة والسلطة الدينية.

 

– في العصر الحديث، لا يزال المنبر يحتفظ بوظيفته الأساسية، لكنه تطور ليشمل مكبرات الصوت ووسائل التقنية الحديثة لنقل الخطب إلى جمهور أوسع.

 

• قدسية المنبر وتأثيره على المصلين

 

– يحمل المنبر مكانة خاصة في قلوب المصلين، فهو ليس مجرد مقعد للخطيب، بل هو رمزٌ للحق والعدل والتوجيه الإلهي. عندما يصعد الإمام أو الواعظ عليه، يضفي ذلك هيبة على كلماته، ويمنحها قوة روحية تؤثر في النفوس، وتُرسّخ التعاليم الدينية والأخلاقية.

 

• رحلة المنبر عبر التاريخ ورمزيته :

 

– المنبر لم يكن مجرد وسيلة للإلقاء، بل كان جنديًا مجهولًا في قيادة الأمم. فمنه نطق الأنبياء بالحكمة، وألقى القادة الدينيون عظاتهم .. و من فوقه انطلقت خطب الحماس و الجهاد و التى قادت إلى الفتوحات .. و الحروب ..

 

– في عصور ما قبل التاريخ، كان الكاهن يقف على الصخور ليبث رسالته.

 

– في مصر القديمة، كانت المعابد منصات لنقل العقائد.

 

– في اليهودية والمسيحية، تطورت المنصة لتكون مركزًا لتلاوة الكتب المقدسة.

 

– في الإسلام، أصبح المنبر عنصرًا جوهريًا في المساجد، ومركزًا للوعظ والإرشاد.

 

•• إنها رحلة المنبر عبر العصور، من صخرة في الصحراء إلى تحفة معمارية مهيبة، لكنه ظل دومًا رمزًا للخطاب الديني والتوجيه الروحي، ومنصة تربط الأرض بالسماء.

 

خاتمة

 

رحلة المنبر هي رحلة تمتد عبر العصور، تعكس تطور الفكر الديني والفني والعماري. سواء في المعابد الفرعونية، أو الكنائس، أو المعابد اليهودية، أو المساجد، ظل المنبر منصة مقدسة تجمع بين التواصل الديني والجمالي. اليوم، رغم التطورات التقنية، يبقى المنبر شاهدًا على دور الكلمة في التأثير الروحي والمجتمعي، وجسرًا بين الماضي والحاضر في مسيرة الإنسان نحو الروحانية والسمو.

 

 

Exit mobile version