بقلم : أحمد السيد النجار
لم يكن ديليسبس سوى محتال أفاق، أوكل إليه محمد على باشا الكبير، تدريب ابنه السمين محمد سعيد، لتخليصه من السمنة وتعليمه الفروسية، فكان يقدم له المكرونة التي يعشقها من وراء ظهر أبيه، وكون صداقة قوية معه منذ طفولته. وبعد اغتيال عباس حلمي الأول وتولى محمد سعيد الحكم، حضر فرديناند ديليسبس فورا إلى القاهرة والتصق به كالقراد متحينا الفرصة لاقتناص مشروع حفر قناة السويس اختطافا من مجموعة السان سيمونيين أصحاب السبق والدراسات الجدية للمشروع. ومنحه سعيد امتياز تأسيس شركة حفر قناة السويس واستثمارها لمدة 99 سنة من تاريخ افتتاحها للملاحة. وأصدر الامتياز الثاني في 5 يناير عام 1856 ومنح الشركة بموجبه وبصورة مجانية، جميع الأراضي المطلوبة لإنشاء قناة السويس وحفر ترعة الإسماعيلية وفرعيها الجنوبي والشمالي. ومنح الشركة الحق في تقدير الرسوم التي تفرض على السفن التي تمر في القناة، والحق في فرض الرسوم التي تراها على السفن التي تمر في ترعة الاسماعيلية، وعلى أي استخدام لمياهها من قبل الفلاحين المصريين!! كما منح الشركة الحق في الانتفاع المجاني بكل الأراضي العامة المحيطة بالترعة والتي يمكن ريها وزراعتها. وألزم الحكومة المصرية بتوريد 80% من العمال اللازمين للحفر، وهي العملية الجهنمية التي فقد فيها قرابة 120 ألف عامل مصري حياتهم طوال سنوات حفر القناة بسبب سوء الإقامة وتدني مستوى التغذية وانعدام الرعاية الصحية. ومقابل كل ذلك تحصل مصر على 15% من صافي أرباح الشركة، بينما يحصل المؤسسون أي المحتال ديليسبس وأسرته من بعده على نسبة 10% دون أن يقدم أي شيء، والنسبة الباقية توزع على المساهمين. وفي البند السادس عشر من فرمان الامتياز الثاني والذي حددت مدته بـ 99 عاما تشير الفقرة الثالثة إلى “أنه إذا احتفظت الشركة بالامتياز لمدد متتالية كل منها 99 عاما ارتفعت حصة الحكومة المصرية من 15% في المدة الأولى إلى 20% في المدة الثانية، إلى 25% في المدة الثالثة، وهكذا ترتفع هذه الحصة بمقدار 5% عن كل مدة على ألا تتعدى هذه الحصة أبدا 35% من أرباح المشروع الصافية.
أي أن النية كانت مبيتة لدى ديليسبس والشركاء الأجانب للسيطرة على الشركة للأبد وليس لمدة الامتياز المحددة بـ 99 سنة.
وإمعانا في انتهاك حقوق مصر في فرمان عام 1856 فإن محل التقاضي بشأن أي خلاف كان باريس، رغم أن المقر الرئيسي للشركة كان في الإسكندرية، لكن المحتال ديليسبس أضاف إليه المركز الإداري في باريس كمبرر لجعل العاصمة الفرنسية محل التقاضي المختار.
كما أعطى فرمان 1856 للشركة صاحبة الامتياز الحق في استخراج جميع المواد اللازمة لأعمال البناء والمحافظة على المباني والمنشآت التابعة للمشروع من المناجم والمحاجر المملوكة للدولة بدون أن تدفع أي ضريبة أو رسم أو تعويض. كما تتمتع الشركة بالإعفاء الجمركي الكامل على كل وارداتها من الآلات والمواد اللازمة للمشروع أثناء إقامة المباني أو الاستغلال. وبدلا من خضوع الشركة بشكل كامل للسيادة المصرية باعتبار أنها ستحفر في أرض مصرية كليا، فإن فرمان عام 1856 أقر مبدأ حياد القناة وحرية الملاحة فيها لكل الدول على قدم المساواة وبدون أي تفضيل في حق المرور أو الرسوم المقررة عليه.
لقد كانت مصر وسية لحاكم عديم القدرات في إدارة العلاقات الاقتصادية الدولية وامتلك رأسه لص أفاق هو فرديناند ديليسبس الذي نهب مصر عبر مشروع القناة مستغلا العلاقة الشخصية القوية والقديمة منذ طفولة محمد سعيد.
وبسبب مشروع القناة والتزامات مصر تجاهه، اقترضت الحكومة المصرية لأول مرة في تاريخها الحديث، وعندما مات محمد سعيد كانت ديون مصر قد بلغت نحو 367 مليون فرنك فرنسي وفقا لتقديرات محمد صبري بك. أما تقديرات عبد الرحمن بك الرافعي فكانت نحو 11,16 مليون جنيه مصري. ولإدراك حجم الاحتيال الذي كان الحاكم الساذج محمد سعيد يتعرض له، يكفي أن نعلم أن العمولات والسمسرة المتعلقة بالقروض شكلت نحو 26% من قيمتها الإجمالية!!
وعندما صعد الخديوي إسماعيل لقمة الحكم عام 1863 بعد وفاة عمه محمد سعيد باشا، حاول جاهدا معالجة الكوارث التي خلفها عمه في صورة الامتيازات التي قدمها بلا حساب للشركة وللمحتال ديليسبس.
وفي معرض طلبه لإنهاء السخرة، ولاستعادة الأراضي الفائضة عن المشروع وترعة الإسماعيلية وفرعيها لصالح مصر قال إسماعيل كلمته الشهيرة: “ليس هناك من يؤمن بالقناة أكثر مني، لكني أريد القناة لمصر، ولا أريد أن تكون مصر للقناة”. لكن ديليسبس طلب تحكيم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا في هذا الطلب. وأصدر ذلك الأخير حكما ظالما جديرا بزعيم عصابة للصوص وقطاع الطرق وليس امبراطورا لدولة كبرى آنذاك.
لقد حكم نابليون الثالث على مصر ولصالح الشركة، بدفع مبلغ 38 مليون فرنك فرنسي مقابل إلغاء السخرة وتنازل الشركة عن مطالبة الحكومة المصرية بتوريد العمال. وحكم على مصر بأن تدفع 16 مليون فرنك نظير تنازل الشركة للحكومة المصرية عن كل حق في ترعة المياه العذبة (لم تكن الشركة قد حفرت من تلك الترعة سوى المسافة من وادي الطميلات حتى بحيرة التمساح، ولم تكن قد كلفتها حتى وفقا لتقديراتها هي نفسها سوى 10 ملايين فرنك)، على أن تكمل الحكومة المصرية حفر الترعة من القاهرة حتى وادي الطميلات على نفقتها الخاصة، مع احتفاظ الشركة بحقها في أن تأخذ مقدارا من المياه العذبة من الترعة يوميا بصورة مجانية حتى يتم الانتهاء من حفر قناة السويس، مع إعفاء سفن الشركة التي تمر في الترعة من أي رسوم. كما حكم بأن تدفع مصر للشركة 30 مليون فرنك مقابل إعادة 600 كيلومتر مربع من الأراضي التي حصلت عليها مجانا ولا يحتاج إليها المشروع. وبذلك بلغ مجموع الغرامات التي حكم بها نابليون الثالث على مصر 84 مليون فرنك. وقد عاونه في ذلك النهب نوبار باشا وزير إسماعيل الذي أوفده للتفاوض في باريس والذي لم يكن أمينا على مصالح مصر.
وإضافة لذلك فإن مصر دفعت 10 ملايين فرنك للشركة مقابل استعادة أراضي تفتيش وادي الطميلات التي اشترتها من إلهامي باشا بعشر ذلك الثمن. هذا بعض من كثير عن ذلك اللص الذي يحاول البعض إعادة تمثاله إلى مدخل القناة.
التعليقات