صلاح جنيدي رئيس هيئة الاوقاف الاسبق
حين تدخل احد المساجد من ذوى القباب الشامخة ، تشعر وكأنك قد دخلت إلى عالم آخر، عالم تتلاقى فيه الهندسة بالعقيدة، والجمال بالروحانية. ترتفع القبة في السماء، تحتضن الضوء، وتبدو كأنها تحمل الفضاء فوقها بخفة مذهلة. فالقبة ليست مجرد عنصر معماري، بل إنها قد تشعرك بتجسيد لفكرة العرش الإلهي، حيث يوحي ارتفاعها واتساعها بعظمة الخالق وسمو الدين ،،
و رغم أن القبة- كمفهوم إنشائي- ليست ابتكارًا إسلاميًا خالصًا، لكنها في العمارة الإسلامية قد تحولت إلى رمزٍ للرفعة والاتساع والروحانية. ومنذ ظهورها الأول ” في قبة الصخرة ” تطورت عبر العصور لتصبح عنصرًا أساسيًا في المساجد والقصور ، حاملة في طياتها الإبداع الهندسي والفلسفة الجمالية العميقة.
• القبة: النشأة والتطور عبر التاريخ
1. أصول القباب في الحضارات القديمة :
بدأ استخدام القباب منذ العصور القديمة، حيث برع الرومان والبيزنطيون في إنشاء قباب ضخمة تغطي المساحات الواسعة. من أشهر الأمثلة:
– قبة البانثيون في روما : (125م): أول قبة خرسانية ضخمة، قطرها 43.3 متر، وكانت رمزًا للعظمة السماوية في المعتقدات الوثنية.
– قبة آيا صوفيا في القسطنطينية (537م): نموذج بيزنطي فريد، قطرها 31 متر، استخدم فيها نظام أنصاف القباب لتوزيع الأحمال.
2. القبة فى العمارة الإسلامية
• مع انتشار الإسلام، بدأ المعماريون المسلمون بتطوير مفهوم القبة، حيث لم تكن مجرد غطاء للمسجد، بل كانت عنصرًا يعبر عن العقيدة الإسلامية.
و أول وأبرز قبة في التاريخ الإسلامي هي قبة الصخرة (691م – القدس) :
– أول قبة إسلامية بارزة، بُنيت بأمر الخليفة عبد الملك بن مروان.
– قطرها: 20.4 متر – ارتفاعها: 35.3 متر.
– استُخدم فيها الذهب والزخارف الفسيفسائية لتعكس النور، مما أعطاها تأثيرًا سماويًا مهيبًا.
تطور بناء القباب في العمارة الإسلامية
1. التحدي الهندسي: تحويل المربع إلى دائرة
عند بناء القباب فوق الفراغات المربعة، كان لا بد من ابتكار حلول هندسية ذكية، منها:
– المقرنصات: مجموعة من الطبقات المتدرجة التي تنقل الشكل من المربع إلى الدائرة، كما في قباب المماليك.
– المثمنات والرقبة الأسطوانية: كما في قبة مسجد محمد علي، حيث يتم رفع القبة على قاعدة مثمنة تعلوها أسطوانة مزودة بشبابيك.
-أنصاف القباب: كما في آيا صوفيا، حيث تعمل القباب الجانبية على دعم القبة الرئيسية
2. مراحل تطور القباب الإسلامية:
العصر الأموي: قبة الصخرة، مسجد دمشق الأموي (استخدام المقرنصات والقباب الخشبية).
العصر العباسي: التركيز على القباب الضخمة كقبة سامراء.
العصر الفاطمي: القباب الصغيرة المقرنصة كما في جامع الحاكم بأمر الله.
العصر المملوكي: القباب المرتفعة المميزة بالمقرنصات والزخارف الدقيقة.
العصر العثماني: القباب الضخمة المستوحاة من آيا صوفيا، كما في جامع السليمانية ومسجد محمد علي.
• الإحساس الروحي والجمالي للمصلين تحت القبة :
عندما يقف المصلي تحت القبة، يشعر وكأنه داخل عالم سماوي:
الارتفاع الشاهق يمنح إحساسًا بالاتساع والجلال، وكأن القبة تربط الأرض بالسماء.
الزخارف الهندسية والخطوط العربية التي تزين القبة تعكس جمال القرآن الكريم وتعزز الروحانية.
الصدى الطبيعي داخل القبة يجعل صوت الإمام ينساب بلطف، مما يعمّق الخشوع.
الإضاءة القادمة من النوافذ العلوية تخلق تأثيرًا سحريًا، حيث يبدو النور وكأنه يتسلل من السماء مباشرة.
تناغم القبة مع المئذنة: سموٌ نحو السماء
تكتمل روعة المسجد الإسلامي حين تتناغم القبة الضخمة مع المئذنة الشاهقة، حيث:
تعكس القبة الثبات والجلال، بينما ترمز المئذنة إلى الارتفاع والنداء إلى الصلاة.
في المساجد الكبرى، مثل مسجد السلطان أحمد، نجد المآذن تحيط بالقبة، مما يعزز إحساس التناسق والانسجام.
• القبة والمئذنة معًا يوجهان نظر المصلي إلى الأعلى، في إيحاء روحي بأن القلب والعقل يتجهان نحو الله.
الخاتمة :
• ليست القبة مجرد عنصر معماري يزين المساجد، بل هي وسيلة تعبيرية تعزز تجربة المصلين الروحية. العمارة ليست فنًا منفصلًا عن الشعور الإنساني، بل هي لغة تُترجم طبيعة ووظيفة المكان. في المسجد، تتحول القبة إلى فضاء روحي يفتح الأفق أمام العقل والقلب معًا، حيث يرمز اتساعها وارتفاعها إلى عظمة الله وسمو ملكوته.
حين يقف الإنسان تحت القبة، تحيط به رهبة المكان وقدسيته، فيشعر وكأنه غارق في بحرٍ من النور والسكينة. وهكذا، تثبت القبة أن العمارة ليست مجرد بناء، بل رسالة، رسالة تُترجمها الأحجام والنسب والضوء والفراغ، لتجعل كل من يقف تحتها يدرك أنه في حضرة عظمة الله.
التعليقات