لم أكن متحمساً كثيراً للخوض في النقاش حول تجديد الخطاب الديني ، ذلك أن مثل هذا النقاش يقوم علي افتراضات خاطئة كتصور أن قيام المؤسسة الدينية بإعادة النظر في مضمون ما تطرحه لاتباعها عن تعاليم الدين وتأكيدها أن رسالته الصحيحة تقوم علي الاعتراف بحرية الاعتقاد لكل البشر وأن الدعوة له يجب أن تقتصر علي الحكمة والموعظة الحسنة ، سوف يجعل بعض أتباع هذه المؤسسة يعدلون عن العنف في التعامل مع من يختلفون عنهم في العقيدة أو مع رموز الدولة التي يتصورون أنها تحمي ممارسات خاطئة لهذا الدين .
ولكن تشجعت علي تناول تلك القضية بعد أن أصبح موضوعاً للسجال علي أعلي مستويات السلطة في مصر عندما كرر الرئيس السيسي دعوته لتجديد الخطاب الديني بحيث يشدد علي نبذ العنف والتسامح وبذلك يكشف قوي خفافيش الظلام والمتاجرون بالدين ، ولنتصور أن مؤسسة الأزهر وجميع الشيوخ الذين تعتمدهم قد أستجابوا لهذه الدعوة غير محددة المعالم لتجديد خطابهم ، هل سيتوقف ذلك ممارسات العنف المجتمعي ؟!
ورغم جهود هؤلاء العلماء والأئمة والمثقفين في هذه المعركة الفكرية والحضارية إلا أننا نتطلع إلي مزيد من هذه الجهود لإعادة قراءة تراثنا الفكري قراءة واقعية مستنيرة نقتبس من ذلك التراث الثري ما ينفعنا في زمننا ويتلاءم مع طبيعة عصرنا وطبيعة مستجداته دعونا ننقذ العقول من حيرتها وننبه النفوس من غفلتها وننشر المفاهيم السمحة .
وبالرغم من الجهود المبذولة في هذا الصدد من قبل الجهات المعنية بذلك وأبرزها الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف إلا أن تلك الجهود لم ترق بعد إلي المأمول ولم تلبي طموح الرئيس السيسي لتجديد الخطاب الديني ودعا عدد من علماء الدين بسرعة الانتهاء من عناصر خطاب ديني تجديداً واعياً ومسئولا يقضي علي الاستقطاب الطائفي والمذهبي ويعالج مشكلة التطرف ، ويأتي اهتمام وإلحاح الرئيس السيسي علي أهمية تجديد الخطاب الديني لكونه أحد العناصر الأساسية في مواجهة التطرف واهتمام السيسي بهذه القضية لم يأت من فراغ لكن فرضتها الضرورة في ظل ما عانت منه مصر ودول المنطقة خلال العشر سنوات الأخيرة مع تصاعد العمليات الإرهابية والتي ينفذها الكثير من الشباب الذين اجتذبتهم افكار تنظيمات تكفيرية مثل داعش وغيرها وهل سيتوقف الشباب من اعتناق تلك الأفكار بعد ان انخرطوا في صفوفها وانطلقوا لمحاربة الدولة والمواطنين الذين لا يستجيبون لدعاوى هذه التنظيمات ، فلنلاحظ هنا أن الأزهر لا يحتكر الخطاب الديني في مصر فهناك إلي جانب خطابه الرسمي توجد خطابات أخري ممن ينصبون أنفسهم واعظين ، فهناك خطاب سلفي إلي جانب خطاب الأزهر المحافظ والمعتدل ، وهناك خطاب إسلامي شعبي يجعل المواطنين المسلمين يزورون أضرحة الموتى في الأعياد ويقدسون الاولياء الصالحين وهناك خطاب ما يعرف بالإسلام السياسي سواء في تنظيماته التي تخوض الانتخابات أو تنظيماته التي ترفع السلاح .
الأعجب أن يكون هذا الواقع لا صله له بالمجتمعات الإسلامية من قريب أو بعيد ، فإذا انتشرت في بعض مجتمعات الأرض ظاهرة العلاقات الجنسية بين غير المتزوجين يتم تحوير النص الديني لإباحة ذلك ، إذا تطور الأمر لاحقًا وانتشرت هذه الظاهرة بين المتزوجين أنفسهم خارج إطار الزوجية وأصبح مقبولًا في تلك المجتمعات يتم تحوير النص الديني مرة أخري لإباحة هذه الجزئية تحت ستار تفسير معين وإذا تراجعت هذه المجتمعات عن هذه العلاقات واستهجنتها يتم إعادة الحكم الديني إلي دائرة التحريم ، وهكذا دواليك ، ومن أسباب هذا الجنوح الفكري عقدة الشعور بالنقص والنظرة الدونية للمجتمعات العربية والإسلامية وتقديس غيرها ، بحيث تصبح أدعياء التجديد مجرد مسوقين لمنتجات المجتمعات الاخري ، دون تفكير علمي نقدي ودون رؤية إبداعية تبحث عن التميز والريادة ودون ميزان سليم ينتفخ علي العالم وفق مبدأ اختيار الأصلح والأنفع وترك الردئ الضار .
يا سادة إن تجديد الخطاب الديني مسؤولية كبري ومن واجب العلماء والدعاة الاجتهادين تقديم الخطاب الأمثل الذي يحقق مقاصد الشريعة ومصالح البشرية ويمدهم بقيم النهضة والرقي والازدهار .
ولعل ما أكده البيان الختامي لمؤتمر الأزهر للتجديد في الفكر الإسلامي يكشف ما نود سرده ويؤكد أنه لابد أن نعطي تجديد الخطاب الديني ( لأهلة) .. فقد اكد البيان علي عدة ضروريات ابرزها ان التجديد لازم من لوزان الشريعة الإسلامية لا ينفك عنها لمواكبة مستجدات العصور وتحقيق مصالح الناس ، وان النصوص القطعية في ثبوتها ودلالتها لا تجديد فيها بحال من الأحوال ، اما النصوص الظنية الدلالة فهي محل الاجتهاد تتغير الفتوي فيها بتغير الزمان والمكان وأعراف الناس شريطة ان يجئ التجديد فيها علي ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها العامة ومصالح الناس .
التجديد صناعة دقيقة لا يحسنها إلا الراسخون في العلم وعلي غير المؤهلين تجنب الخوض فيه حتي لا يتحول التجديد إلي تبديد ، لابد وان نؤكد أن التيارات المتطرفة وجماعات العنف الإرهابية يشتركون جميعاً في رفض التجديد ودعوتهم تقوم علي تدليس المفاهيم وتزييف المصطلحات الشرعية مثل مفهومهم عن نظام الحكم والحاكمية والهجرة والجهاد والقتال والموقف المعادي من مخالفيهم فضلًا عن انتهاكهم ثوابت الدين بما يرتكبونه من جرائم الاعتداء علي الأنفس والأموال والأعراض وهو ما شوه صورة الإسلام وشريعته عند الغربيين ومن علي شاكلتهم من الشرقيين وتسبب في ربط الكثيرين بين أفعالهم المنحرفة وبين أحكام الشريعة ورواج ما يسمي ب ” الإسلام فوبيا ” في الغرب ومن ثم فإن واجب المؤسسات والمجتمع ودعم جهود الدول في التخلص من شرور هذه الجماعات .
فيما اكد البيان الختامي أيضاً ان من أسس الخلل الفكري عند هذه الجماعات التسوية بين الأحكام العقدية وبين الأحكام العملية كاعتبار فعل المعاصي كفراً واعتبار بعض المباحات فريضة واجبة وهو ما أوقع الناس في حرج شديد واساء إلي الإسلام وشريعته إساءة بالغة .
كشف البيان عن ان المراد بالحاكمية عند الجماعات المتطرفة أن الحكم لا يكون إلا لله وان من يحكم من البشر فقد نازع الله سبحانه وتعالي في أخص خصائص ألوهيته ، ومن نازع الله فهو كافر حلال الدم لانه ينازع الله في أخص صفاته ، وهذا تحريف صريح لنصوص الشريعة الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة التي بينت في وضوح إسناد الحكم الي البشر والاعتداد بما يصدر عن أهل الحل والعقد من الأحكام الاجتهادية التي مردها الي الله ، ونتذكر هنا قول ابن حزم ” إن من حكم الله أن جعل الحكم لغيره الله “.
إذًا هنا لابد وان نعلم لماذا ألح الرئيس السيسي علي أهمية التجديد وشدد علي أن التراخي عن الاهتمام بهذا الأمر من شأنه ترك الساحة لأدعياء العلم ليخطفوا عقول الشباب ويدلوا عليهم احكام الشريعة السمحة وينقلوا لهم التفسير الخاطئ للقرأن والسنة .
حفظ الله مصر من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن .