بقلم : د. محمد أبو العلا
بعدما أنهى الموسيقار الكوبلية الأول بكلماته الرقيقة الجذابة، انتقل إلى الكوبليه الثاني بتنبيهٍ يشبه ذلك التنبيه في افتتاحية المذهب، قبل أن تتبارى الآلات الموسيقية في عرض صولوهاتها المميزة، فتبدأ بتنبيه الأورج مع الكامنجات، ثم الطبلة في عزفٍ بديع، ليتناول منها الأوكرديون جزءًا صغيراً، فترد عليه الكمانجات، ليعود الأوكرديون مجدداً للرد عليهم، ويتناول الصولو الرئيسي للتهدئة للدخول إلى الكوبليه الثاني بمشاركةٍ على استحياء من الأورج، صورة تمثل الفيضان الوجداني للملحن، بتفعيلةٍ مفتوحة؛ أي متكررة، قبل أن تدخل أم كلثوم إلى هذا الكوبليه، قائلةً:
دا الهوى العطشان في قلبي بيندهك يا أرق من النسمة وأجمل من ملك
أنت روحي وكل عمري ونور حياتي يا حياتي إيه أنا بالنسبة لك
وهي تطرح هذا السؤال بمشاعر الحبيب الذي تبدو على نبرات صوته الهيام، وكأنه يبوح بتلك المشاعر للمرة الأولى بينهما قائلاً:
“أنت روحي وكل عمري ونور حياتي”، ثم يطرح السؤال البديهي لاستمرار أي مشاعر: قائلاً “يا حياتي إيه أنا بالنسبة لك؟”، وهو سؤالٌُ استنكاري، إذ ليس الغرض منه المعرفة، لأن المحب لن ينتظر طويلاً، وسوف يجيب هو عنه بنفسه، إنما يطرحه فقط كمعيارٍ للمقارنة، لأنه أكثر منه حباً، وكأنه يقول له قبل أن تنطق استمع إلى حيثيات الحب في الأبيات:
حبيبي أنا مخلوق علشانك يادوب عشانك أنت وقلبي عاش على لمس حنانك يادوب حنانك أنت
فتظهر براعة الملحن في تكرار كلمة “عشانك”، فالأصل في الحب عبارة “أنت روحي وكل عمري” الأصل هو المحبوب، وهو ماتؤكدة كلمات “عشانك، يادوب عشانك عشانك أنت”، وكذلك في قوله “وقلبي عاش على لمس حنانك يادوب حنانك حنانك أنت” كلها كلمات تؤكد صدق الإحساس، حتى أن أي محب يحتاج إلى مساحةٍ من الزمن ليتنعم بالجمال، يأمل أن يتوقف الزمان عند تلك اللحظة التي تجمعه بحبيبه، وهو مايبينه الشاعر الرقيق قائلاً:
حلوة الأيام حلوة الأحلام حلوة حياتي، حلوة يا سلام حلوة بتمر قوام ويَّا حياتي
يا زمان يازمان يازمان يا ليالي طويلة أحلامها جميلة مُحال تنعاد
يا زمان يازمان يازمان يا ليالي بتجري بتطوي أمالي وتفوتنا رماد
فيها إيه لو تنسى اتنين اتنين في الحب، اتنين بالحب، اتنين للحب دايبين عايشين؟
بينما يكرر الملحن كلمتي “حلوة” وكلمة “يا زمان” ليدلل على طول لحظات السعادة مع الحبيب، فغاية أي علاقة تجمع بين حبيبين أن تكون تلك العلاقة جيدة أولاً، وعلامة جودتها الجمال الذي عبر عنه بكلمة”حلوة”، والاستمرارية ثانياً، التي عبر عنها بكلمة “يازمان”، كذلك تظهر براعته أيضاً عندما يطرح هذا السؤال قائلاً:
فيها إيه لو تنسى اتنين اتنين في الحب، اتنين بالحب، اتنين للحب دايبين عايشين؟
وهو يتكلم كأنه يلوح بيديه كالذي يلوم الزمن مكرراً كلمة “فيها إيه”، كالذي ينهر إنساناً لأمرٍ ما لم يفعله.
وقد استخدم الشاعر كلمة الحب ثلاث مرات في هذا المقطع بثلاث صورٍ مختلفة، تتكامل كلها لتؤكد أن حياة المحبين ماهي إلا الحب، أولى تلك الصور:”اتنين في الحب” بحرف الجر “في” الذي يفيد الانخراط في الحب، ويعبر عن الغرق في الحب، وثانيها: “اتنين بالحب” والتي تعكس صورة حاضرهم، فهم يحيون بالحب وبالحب فقط، وآخر تلك الصور التي لا تنقضي للحب “اتنين للحب” أي لن تكون حياتهما في المستقبل إلا لهذا الحب، وتكرار كلمة “اتنين” ماهي إلا للتعبير عن التمني، التمني الذي هو هينٌ على الزمان، هينٌ عليه أن يترك هذان العاشقان فقط، وهو الخوف المستقبلي من انتهاء أي شيء، لكن وأي شيءٍ أقوى من تلك الصورة في ظن المحب؟