بقلم محمد صبحي فودة – المدرس المساعد بجامعة الأزهر الشريف
الوسطية سمة بارزة من سمات الشرع الحنيف، فهذه الشريعة الربانية متسمة بأنها شريعة السماحة، ورفع الحرج؛ لأنها موافقة للفطرة السليمة للمرء، والإسلام وسط في كل القضايا الدينية، والدنيوية، والعبادات، والمعاملات، ولذا حدد الله – عز وجل – أنه جعل هذه الأمة أمة وسطاً، ومنهجها منهج وسطي فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}”إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم،
والرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الذي يشهد عليها فيقرر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة، وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها.
“الوسطية هي: تحقيق لمبدأ التوازن الذي تقوم عليه سنة اللَّه في خلقه، وفق نظام رباني، ومشيئة إلهية، ولحكمة أرادها اللَّه – تعالى -، وتقدير مسبق، وثوابت وسنن لا تبديل لها، وهذا التوازن الذي يعني في الوقت نفسه الاعتدال، والتكافؤ بين العناصر والمقومات والمكونات جميعاً، والتكامل فيما بينها؛ هو القاعدة الثابتة للوسطية، وهو الخاصية الجوهرية التي تتميّز بها، فإذا انتفى هذا التوازن فقدت الوسطية عنصرها الأساس؛ لأنها في هذه الحالة تميل مع الأهواء فتصبح تفريطاً أو إفراطاً، وهما بابان من أبواب التطرف في أحد الاتجاهين الإيجابي أو السلبي، وإن كان لا خير في التطرف من حيث هو وإن حسنت النوايا؛ لأنه شرٌّ كلّه، وعاقبته وخيمة في جميع الأحوال”.
مظاهر الوسطية:
إننا حين نتكلم عن مظاهر الوسطية في الإسلام؛ نتكلم عن أمور كثيرة، ومتغلغلة في جميع شعائر الدين وفرائضه، ولو تحدثنا عنها لذكرنا كل ما يتعلق عن الإسلام من عقائد، وأحكام، وعبادات، ومعاملات، وعلاقات… الخ، ولكنا في مقام لا يتسع لذكرها وسردها، بل لذكر القليل مما في شرائع الإسلام الواسعة، وأحكامه الشاملة التي تشمل حياة الإنسان كلها.
فمن مظاهر الوسطية:
أولاً: وسطية الإسلام في التشريع: ويبرز ذلك من خلال عدة أمور في الشريعة منها:
1. التدرج في التشريع: ولعل من رحمة الله – عز وجل – التي جاء بها نبينا محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه كان لا يحمل الناس على الأحكام جملة واحدة، إنما كان مبدؤه التدرج، وقد قُررت في كثير من الأحكام وبخاصة في المحرمات كإزالة الأصنام من حول الكعبة، ومن المعلوم أنها لم تُزَل من الكعبة إلا يوم فتح مكة، وكالخمر الذي من المعلوم أيضاً أنه لم يحرم مرة واحدة بل حرِّم على التدرج {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وغير هذه القضايا من التي حرمها الشرع الحنيف.
وقد سارع المشرع الحكيم في القضاء على هذه المحرمات على منهج التدرج في التحريم؛ تهيئة للنفوس، وترويضاً للنفوس على تقبل أحكام الله، وضماناً للاستجابة الكاملة لأحكام الدين، وقد كان هذا التدرج في تشريع حرمة المحرمات مسلكاً من مسالك العلاج الرباني لحكمة عظيمة، فإن التمهل في استئصال العادات القبيحة المتأصلة في النفوس، والسائدة في المجتمع من الأمور المتوارثة عبر قرون غابرة؛ لهو الحل الأنسب، وهذا الذي ينبغي على الداعية إلى الله – عز وجل – أن يسلكه.
2. التيسير في الشرائع المفروضة: فإن المتأمل في جميع شرائع الإسلام يجد أنها مبنية على التيسير، بل إن التيسير منهج رباني، ونبوي، وسمة بارزة من سمات هذا الدين، وتتجلى هذه السمة من خلال سيرته – صلى الله عليه وآله وسلم -، وحرصه على التيسير، حيث كان يحث أصحابه على التيسير، ومن النصوص الدالة على أن ديننا دين مبني على التيسير: قوله – عز وجل -: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقوله – تعالى -: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}، {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ}، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ)) ، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)) ، بل أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – حين كان يرسل الرسل لدعوة الناس كان يأمرهم بالتيسير فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ – رضي الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَ مُعَاذاً وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ فقَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)) وفي هذه النصوص “الأمر بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف، وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير”، وقد كان النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – مثلاً أعلى في التيسير، فقد كان التيسر ديدنه ومنهجه فعَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: “مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا”، كما قرره الفقهاء وكبار العلماء
التعليقات