✍️ إبراهيم فايد
بسم الله أبدأ، وما ليَ لا أُسَمِّي الذي إذا مَرِضْتُّ فهو يشفينِ، بِسْمِ الله ذي الفضل والإحسان جَلَّ وعَلا نبدأ،
كورونا وما أدراكم ما هي!
إنها ذاك الضيف الخَفِيُّ المتطفل الفضولي المتعجرف الذي أبَىٰ إلا الاستقرار لا بمنزلك ولا إلىٰ جوارك ولا ولا، وإنما فاقت حُدودُ أمانيهِ واعتلَتْ فَرَضيات التبجُّحِ لديه حتَّىٰ اختار العيش بداخلك! نعم لا تعجَبْ، تخَيَّرَ العيش داخل جسدك أنت دونًا عن هذا الكون الفسيح الذي لا بداية له ولا نهاية، وإذْ قنَعْتَ أنت بهذا العبَثِ لم يرضَ هو ولم يراعِ آداب الضيافة وحُسْنَ المعاملة كَغَيرِهِ من أمراض وأوبئة لَطالما أتَتْنا رُسُلها من الفيروسات والبكتيريا والميكروبات وغيرها، وإنما راح بمنتهىٰ الخُبْثِ والخَبَثِ والمَكْرِ يتلاعب يَمْنَةً ويَسْرَةً خُفيَةً وعَلَنًا عَلَّهُ يطردك خارج جسدك وينتشي هو فيه وحده لا شريك له! نعم وقد نجح بالفعل في طرد ملايين الأرواح الحالمة من أجسادها لتنطلق صَوْبَ بارِئِها، بينما يستقل هو بذاك الجسد الخاوي علىٰ عروشه!
الأزمة بدأت منذ شهرين بالتمام والكمال، حين عانَيْتُ كباقي البشر بأعراض -ظننتها أعراض البرد العابرة- إثر تغيرات مواسم العام ودرجات الحرارة وغيرها، لكني كنت حَسَنَ النوايا بِقَدْرٍ جعلني أعتقد كَوْنَها نزلة برد، لكن الحقيقة بدأت تظهر أمام ناظِرَيَّ تدريجيًا حين تضاعفَتْ الأعراض وتعاظمَتْ الآلام وتعالَتْ الهرجلة بدخلي.. تتحشرج رَوْحي حينًا وتلين أخرىٰ، بينما بِتُّ أنا علىٰ غير هِداية مني أتخبط هنا وهناك وسْط لَفيفٍ من أعراض السخونية والكحة وآلام الصدر وضيق التنفس وغيرها ولكن شتَّان بين هذه الأعراض وغيرها من أعراض الأنفلونزا ونزلات البرد العادية، فدعوني أصف لكم ذاك المشهد بِرَوِيَّةٍ أكثر؛ لا توثيقًا لِما عايشته أنا كاتب المقالة، ولا تخليدًا لمعانياتي التي لا تسوىٰ حبَّةَ خردَلٍ في عُمُرِ هذا الكون الفسيح، قدْرَ كَوْنِها تعبيرًا عمَّا يجيش بِصَدْرِ ضحايا كورونا ومَن عاداهم مِنَ المُبتلين بمضاعفاتها وجلطاتها وأزماتها التي لا حَصْرَ لها ولا عَدَّ….
– ارتفاع درجة الحرارة
حرارَةٌ مرتفعةٌ بحجم السماء لا تكاد تهبط تارَةً بالمُثَبِّطات والمُسَكِّنات وخافِضات الحرارة حتَّىٰ ترتفع أخرىٰ إلىٰ عنان السماء مِن جديد كما نافورة راقصة، نعم راقصة؛ فهي ليست حرارةً ثابتةً وإنما ترُجُّ الدِّماغ رجًّا وتهُزُّ الأَوْصال هزًّا لتترك وراءها صداعًا شقيًا أَشْبَهَ بِزِلزال تَفَشَّىٰ هنا وهناك بلا أدنىٰ وداعَةٍ أو خُمول، ومِن فرْطِ فُضولها تبقىٰ علىٰ مبدأها هذا طيلة عشرة أيام وأكثر لا يصُدُّها حَقْنٌ ولا يردَعُها كَبْسول!
– السُّعال
أما عن السُّعال فحدِّثْ ولا حرج، كحة عجيبة غريبة الأطوار لم أَكُنْ يومًا -طيلة ثلاثة عقود- لِأُدْرِكَ ماهيتها، فهو سُعال من نوع خاص غريب وجديد على رئتَيَّ النحيلتَيْن هاتَيْن، كحَّةٌ تَخْرُجُ مِن أعماق الأعماق وكأنما بركان انفجَرَ لِتَوِّهِ فَراحَ يضرب الصخور وتضربه لا بِقُوَّتِهِ يدفعها ولا بصمودها تصُدُّه؛ فسُعال كورونا تشعر معه كما لو كانت في شعبك الهوائية أرطالًا من الردم والخَرَسان الذي سدَّ طريق السعال، لكن “كوڤيد” اللعين بجبروته أقسم ألَّن يعود أدراجَهُ ولو كرِهَتْ الأدوية والمهدئات؛ فسرعان ما تستشعر اندفاعة السُّعال العنيف هذا وارتطامه بتلكم الأكوام من الردم والخرسان والكثبان الرملية التي تراكمت بجنبات صدرك الهش الرقيق الذي لا حول له من دون الله ولا قوة.
– آلام الظهر
هل سبَقَ وجربت إحساس البيتزا بعد أن اقتنصْتَها وانقضضْتَ عليها بلا أدنىٰ هَوادَةٍ منك لتقسمها ثمانية قِطَعٍ متساوية؟ الأمر ذاته هو ما يتملك ظهرك وبلا أدنىٰ مبالغة، فوالله والله والله لَآثار كورونا علىٰ الظهر كما سِكِّينٍ حادٍّ انطلَقَ ليقطع ظهرك أنصافًا وأرباعًا وأثمانًا تستشعرها مع كُلِّ كحة وكُلِّ حركة وكُلِّ نفَسٍ لا سيَّما بالأيام الأولىٰ من احتلال ذاك العدو اللعين جسدَك.
– ضِيق التنفس
يا الله علىٰ هذا الغموض الأليم، نعم إنه مغتصِبٌ غامِضٌ مُتَنَكِّرٌ لا تدري ماهيته، يكاد يقتلع عنك لُبَّ عقلك وإن كنت فلسفيًا إلىٰ حد ما أراك تتعجب حدَّ الجنون؛ ما بال الهواء وقد ملأ آفاق الفضا لا يدخل فيهي إلا بالنذر اليسير؟! أنكمَشَتْ رئتاي لهذا الحَدِّ فَلَمْ يعد للأكسجين مَرْتعًا هناك؟ أَمْ تقلَّصَتْ قصبتي الهوائية فارتَدَّ التَّيار لِأنفي لم يجد مَمَرًا يسعفه؟ أَمْ ضَمُرَتْ مِنخاري تلك العَجوز المَعقوفة التي احتملتني وتحَمَّلتُها عشرات السنين؟! ماذا يحدث بحق الجحيم؟؟؟ يكاد الشَّتات يحتال علىٰ عقلك والجنون ينتشي بِشِعاب قلبك، وما كان قلبُكَ نسِيَّا!
– آلام الصدر
عرَضٌ آخَرٌ غاية في كل وأي شيء، عرَضٌ متقدم يوقظك مِن عَزيز نومك مباغتةً بعد أيام وأيام من بدء الإصابة، فبكل أسف لم ترضَ كورونا المغادرة بل ولم تقنع حتَّىٰ بأن تحُلَّ ضيفا ثقيلًا علىٰ جسدك الهزيل هذا إلا بتشريفة عجيبة وكوكتيل شامِلٍ جامِعٍ لجُلِّ هذه الأعراض والتي جاءت آخِرُها آلام الصدر بنغزاتها وضرباتها المُوجِعة وكأنما استلَّتْ سيوفها وراحت تغتال الأحشاء عنوةً داخِلَ صدري بِطعناتها هُنا وهناك، لأكتشف بعدها ما لم أحسَبُ له حِساباتي، وقد حدث ما كنت أخشاه من مضاعَفاتٍ وَخيمَةٍ.. جلطةً كثيفةً تمركزَتْ بِخلايا الرئتين دونَما رادِع، وهنا بدأْتُ رحلتي التي لا أكَاد أنساها حتَّىٰ أذْكُرُها مِن جديد.
قبل استكمال رحلتنا السوداء تلك، وجَبَ التنبيه علىٰ السادة الركاب والمسافرين بخطوطنا المَرَضية أن إهمال الصحة وتغافُلَ كُلِّ عرَضٍ أو مرَضٍ مآلُهُ سقَمٌ ووَصَبٌ وهُزال، فلا شكَّ جاءَتْ أزمتي شديدةً بعض الشيء نتيجة إهمالٍ جعلني أتَوارَىٰ عن الذهاب للمَشْفَىٰ طيلة أسبوعين كاملين، تجرَّعْتُ خِلالها الآلام والأحزان لكن جاءت النهاية الحتمية ألَّا يتحمَّلَ جسدي كُلَّ تِلْكُمَ الضربات، حتَّىٰ كِدْتُ أسقُطُ سَهْوًا وصدري يحترق علىٰ وشَكِ الانفجار من ألم مَكبوتٍ داخِلِهِ إثر جَلطَةٍ صادِمَةٍ صارِمَةٍ أكلَتْ الأخضر واليابس مِن أوصالي، ولَعَلَّها كانت القاضية التي أنهكَتني وساقتني للمشفىٰ بعد قياس نسبة التجلط بالجسم والتي جاءت عالية للغاية بقدْرٍ أثار فزَعَ أطباء تابعوني لحظة بلحظة وظَنَّ بعضهم أنها النهاية وقالوها صراحةً، فيما قرَّرَ آخَرون أن المَشْفَى خَيْرُ مُسْعِفٍ قبل أن أُصاب بانسِدادْ رئوي حادٍّ تَتْبَعُهُ وفاةٌ فورية مفاجئة، وبالفعل بدأَتْ رحلتي للمَشْفَىٰ بعْدَ إجراءاتٍ وتسهيلاتٍ أحسَبُ قائِميها علىٰ كُلِّ خَيْر.
أما عن المستشفىٰ وما قضَيْتُهُ خِلالها أيامًا وليالِيَ يَنْدَىٰ لها جَبين العافية، فقد كانت أسوأ من أن تُوصَفَ في مَراحِلِها الأولىٰ والمتوسطة، إذ كان لها الفضل في إنقاذي وغيري المئات، لكن العقل لا يكاد ينسىٰ لحظات الخوف والرعب التي عايَشْتُها إثْرَ التغيرات الطارئة المتسارعة لأعراض كورونا لا سيَّما الأكسجين الذي راح يرتفع تارة وينخفض أخرىٰ بلا أدنىٰ ضابِطٍ أو رابط، ولا أخفيكم سِرًّا كم أن المرضىٰ عاشوا حالات خوف وترقب كُلَّما سَقَطَ أحدُهم فجأة إثر إغماءة نقَلَتْهُ للعناية المركزة أو حتَّىٰ للمقبرة، مَشاهِدٌ لا ينساها العقل والوجدان لأصوات السُّعالِ والعَويل ليلًا وصُراخِ المرضىٰ راجين المساعدة بعد مغادرة فريق التمريض، وأصوات الأدعية الخافتة هنا وهناك والكل يخشىٰ أن يلقى حتفه وينتهي مصيره بغتةً وهو الذي لديه بالخارج أبناء وديون ووعود قد قطعها علىٰ نفسه وعهود…
جانِبٌ آخَرَ ضمن مشاهد عديدة عايَشْتُها بسجن العزل هذا، نعم.. هو سجن بمعنىٰ الكلمة، الجميع يتحرك بحساب، يدنو منك بحساب، يناقشك بحساب، يناوشك بحساب، ويعالجك بحساب، فكل خطوة محسوبة بينك وبين زميلك المريض، بينك وبين الطبيب وفريق التمريض، بينك وبين همس أو لمس كل وأي شيء حولك، الكُلُّ يخشىٰ الكُلَّ، الكل في سريره قابِعٌ كما أبا الهول تحت كمامته لا يرىٰ ثمة شيء علىٰ مدار أربعٍ وعشرين ساعةً إلا سقف الحجرة، وما أدراك ما السقف.. مشهد ذكَّرَني بفيلم قصير لشاب عانىٰ شللًا نصفيًا أقعده طريح الفراش لا يرىٰ منذ سنوات إلا السقف وكفىٰ، أي نعم كنت –دوريًا- أتناوب من طرف السرير إلىٰ وَسَطِهِ ومِن أَوَّلِهِ حتَّىٰ آخِرِهِ، ومن السرير إلىٰ النافذة والعكس، لكن معظم اليوم لا حِراك لا مَشْيَ لا تَرَيُّضَ لا لا لا، والحقيقة لم تكن تلك هي الأزمة في حد ذاتها، ولكن هذه اللقطات حين تندمج مع ما سبَقَها وما تَلاها مِن مَشاهِدِ المعاناة والألم والخوف وغيرها، لا شكَّ تصنع بالأخير فيلمًا تراجيديًا متكامل الأركان من إنتاج وتمثيل وتصوير وإخراج “كورونا”.
كل هذا نقرةٌ والقادِمُ نقرةٌ أخرىٰ، فعندما تأتي نتيجة “المسحة الإيجابية” لمريض كورونا بعد أيام من احتجازه يبدو بحالة قد لا تصفها أبجدياتي المتواضعة، حالة عايَشَها جيدًا كل مَن بات لياليَ وأيامًا بِجَنبات أقسام العزل يتلمس الشفاء، حالة لم ولن أجد في وصفها أفضل مما ذكرَتْهُ شهيدة العلم والطب، هذه الطبيبة الأديبة الأخت والأم والصديقة -مدير قسم العزل بمستشفىٰ المطرية دقهلية- التي وافَتْها المَنِيِّةُ هي الأخرىٰ بعد أن أصيبت وكان لي شرَفُ متابعتها حالتي يومًا ما، حيث كتبت رحمها الله -د. سلوىٰ فرحات- تصف وبمنتهىٰ الدقة: “المشهد الأشد إيلاما هو لحظة إخبار المريض بأنه إيجابي للكورونا وسيتم نقله لمكان آخَر لاستكمال العلاج، وكأننا ننقله غرفة الإعدام! لحظة تعتبر أشد لحظات الضعف حيث تنتابه حالة هيستيرية إما بالرفض التام للخبر والصراخ بأنه سليم متعافىٰ وقد تحسن كثيرًا ولا يريد الانتقال لمكان آخَر، والبعض الآخر يتلقىٰ الخبر بالذهول والذبول والصمت الرهيب حتَّىٰ أنك -كطبيب- تتمنىٰ لو تكلم بأي شيء؛ إنه حقًا ابتلاء عظيم ليس بالمرض فحسب بل بشيء من الخوف والفزع”.
وسْطَ كل هذا وذاك، تتَنَزَّلُ رسائل المُقَرَّبين علىٰ قلبك رحماتٍ بإذن الله، نعم.. ومَن ينسىٰ كل مَن وقف إلىٰ جواره في هذه المحنة بالكلمة الطيبة التي هي في حد ذاتها علاج ناجع لمرض لم يُكتشَفْ علاجه بعد، اللهم إلا تقوية الجهاز المناعي الذي يتأثر كثيرًا سلبًا وإيجابًا بكل ما يدور حولك مِن قَوْلٍ أو فِعْل، أيامًا طوالًا مَرَّتْ وأنا قابِعٌ في سَريري أتلمَّسُ سؤال هذا واهتمام هذا ودعاء هذا….. إلخ، إنها وكما أحسَبُها “مرحلة الفلترة” التي تتخَيَّرُ علىٰ إثْرِها القريب والبعيد، المرحلة التي تُخالِفُ كل توقعاتك مُذْ جِئْتَ إلىٰ هذه الدنيا، حتَّىٰ أنك تفاجَأ بأبعد الغُرَباءِ يتقصَّى أخبارك ويحرص علىٰ دَوام الوِدِّ في تلكم اللحظات الفارقة حرفيًا من عُمُرِك، وعلى النقيض مَن جعلْتَهُم ظِلَّ رَوْحِك علىٰ الأرض -أيًا كان موقعهم من إعراب أسرتك وحياتك- قد لن تجدهم ولا حتَّىٰ باتصالٍ خافِتٍ يواسيك فيه ويُطمئِنُ رَوْحك، هنا ينقسم القلب كما سُبُّورَتَيْن سوداء وبيضاء يُدَوَّنُ علىٰ كِلتَيْهما أسماء وذكريات وأيام وأحلام وأوهام، منها بِلَوْنٍ أبيض وبِحُروفٍ مِن نورٍ تضيء نصف قلبك الأسود لِتُحييه، ومنها ما تسجله بنصف قلبك الأبيض ولكن بِلَوْنِ الظلام والبؤس والسَّوَاد الأعظم بعد أن خالَفَ كُلَّ توقعاتك وهبط كما الدُّموسُ والغروب والعَتَمُ علىٰ روحك فأبْلاها.
فرحة النهاية المنتظَرة، تلك المشاعر التي تنتابك مع قرار مغادرتك المشفىٰ سالمًا آمنًا مطمئنًا معافًى في بدنك وروحك وآمالك بمزيد من تلك الحياة القصيرة، فرحة مغادرة المشفىٰ -رغم رحلة استكمال العلاج بالمنزل لأسابيع أخرىٰ- لا تكاد توصف، إذ تستشعر بقرارة نفسك وكأنما منحك الله حياةً جديدة لا قِبَلَ لك بها، حياةً كنت تفتقدها، هواءً تتنفسه لم تكن تجده وسْطَ أجهزة المستشفىٰ واسطوانات الغاز وأجهزة البخار -نيبولايزر- والتنفس الاصطناعي وغيرها، فرحَةٌ يتجاوز مَداها ما بين المَشْرِقَيْن، فرحَةٌ تستحق المداومة علىٰ حَمْدِ الله وشُكْرِهِ ومَنِّهِ وعظيم كَرَمِهِ أن منحك فرصةً أخرىٰ لم يجدها كثيرون غيرك، فرصةً تذكرني بالآيتَيْن الكريمتَيْن من سورة المؤمنون إذ يقول الله تعالىٰ “حتَّىٰ إذا جاء أحدهم الموت قال ربِّ ارجِعونِ (99) لَعَلِّي أعمَلُ صالِحًا فيما تركْتُ * كَلَّا إنها كلمة هو قائلها ومِن ورائهم برزخ إلىٰ يوم يبعثون (100)” صدق الله العظيم”، موقف مَرَّ به أقرب الأقربين لي حتَّىٰ مَن جاوَرَني في أزمتي الأخيرة مِن مرضىٰ -بعنبر المستشفىٰ- وكان من الوارد أن أكون منهم، لكن الله تعالىٰ منحني فرصةً تستدعي التفكر والتدبر والحمد والشكر إلىٰ ما لا نهاية.
خِتامًا، لم أكن لِأُنهي مقالتي المتواضعة تلك قبل أن أسلط الضوء علىٰ مرحلة غاية في الخطورة والأهمية؛ وغالبًا هي تلك المرحلة التي أحياها الآن، مرحلة ما بعد مغادرة مريض كورونا للمشفىٰ لا سيَّما وإن كان قد احتُجِزَ بمضاعفات وغادَرَ بمضاعفات.. لا احتُجِزَ بأعراض وغادَرَ بأعراض؛ فكُلُّ مَن غادر المشفىٰ بمضاعفات سواء بقايا تجلطات أو التهابات رئوية أو لزوجة بالدم؛ تتفاوت عنده الأعراض ما بين تنميل شديد ومخيف يحتل الأطراف بنومك ويقظتك، فُتورٌ بعضلاتك وحركاتك وحتَّىٰ سَكَناتك، حالة من الضعف العام تسيطر عليك وتتحرك كما لو كنت شَبَحًا تستشعر جسدك يطير بالهواء لا هوية لك ولا حياة، وخِلافًا لذلك قد تحيا معنوياتك لأسابيع في حالة من الإحباط والاكتئاب والخوف والقلق والتوتر والتردد والترقب من كل شيء، وإن شئت فقل من اللاشيء، تنام وتصحو تغفو وتنشط وأنت علىٰ غير هُدًى من واقعك، تتساوىٰ عندك الحياة باللاحياة، والنهار بالليل والتنزه بالحظر…..، نعم.. الحياة قبل كورونا ليست كما بعدها -نفسيًا- بشكل أقرب للفانتازيا، قد لا تجد مبررات عقلية لديك للخمول والقلق والتردد، لكن الملاحَظَ أن الحزن بات او أقرب إليك من نفسك؛ فاللهم لك الحمد ولك الشكر دائمًا وأبدًا علىٰ عظيم عطاياك يا واهب الفضل ويا واسع الإحسان.
التعليقات