علي الرغم من أن الإنسان ضعيف أمام الشهوات والمغريات الدنيوية إلا أنه لا مبرر أخلاقي لإذلال نفسه بغية ذلك فالذي يرضى بالعيش الذليل منحط إنسانيا ومبدئيا وبطبيعة الحال فالبشر ليسوا سواء ولا يملكون جميعا القدرة على إدراك قيمة عزة النفس لأنهم لم يألفوها رغم أن لها مكانتها الفاضلة التي لا تعادلها كنوز الدنيا الفانية وهي من الفضائل الرفيعة التي لا تكتسبها سوى النفوس الأبية العفيفة التي لا تتنازل قيد أنملة عن عزتها وتذود عنها وتضحي بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ عليها والابتعاد عن كل ما يمكنه أن يقرب النفس إلى الفجور الأخلاقي الناجم عن إذلال المرء لذاته ولهذا يعتبر الانقياد لغيرالله انحطاطا ما بعده انحطاط ولا يرضى الإنسان الشريف بأن تذل نفسه أما وضيع النفس والشيم فيستسهل حياة الذل وإقرار الضيم عليه عن قناعة لا لجبن أو جهل لأن الذليل في الغالب تكون نشأته قائمة على الذل لهذا يتعذر غرس قيم العزة في وجدانه ويعجز بأن يتصرف تصرفا يثبت فيه عزة نفسه وحرصه على حفظ ماء وجهه لكونه مداوم على احتقار نفسه بنفسه بلجوئه لعبودية غيره من المخلوقات وإن صرح بنقيض ذلك ويتقبل ذله برحابة صدر وبكل طيب خاطر وإن حاول أحد نصحه بالابتعاد عما يسيء لذاته ويثلم مروءته والعمل على تجنب ما يهين النفس ويحط من شأنها وقيمتها ستجده مدافعا شرسا عن ممارساته المذلة بل يحاول شرعنتها وتبرير قبوله بها رغم أنها مما لا ينبغي أن يقبله أخلاقيا وشرعيا
إن الإنسان اليوم مدعو إلى استرجاع عزة نفسه وإغاثتها والذود عنها مهما كلفه ذلك من ثمن ولا يتم ذلك بمعزل عن الإصلاح القيمي الذي يعد العمود الفقري لكل تغيير إيجابي فالتمكن من ترسيخ قيم العزة في النفس تجعل المرء يأبى إلا أن يعيش عزيزا وسوف ينعكس تأثير تلك الصفة الفاضلة على الذات لتصير سوية وهذا بدوره سيعزز من ثقة المرء بذاته فيقدر إمكاناته ويعتز بإنجازاته ويجعل نفسه في دائرة الحسابات المهمة التي لا تقبل التعدي عليها وتصبح عزة النفس بمثابة خط أحمر لا يمكن السماح بتجاوزه وكل من دعته نفسه الأمارة بالسوء إلى محاولة المساس بها بالتهجم والتطاول عليها سيلقى ردة فعل قوية إذ لا مجال للتهاون فيها أبدا لهذا نقول أن الذي لا يتمتع بنفس عزيزة له مناعة ضعيفة جدا ضد محاولات القتل المعنوي للضمير والقلب المؤدي إلى العيش مثل البهائم والإمعة التي لا تدري أين تضع نفسها
وفي الأخير لا بد من التأكيد مجددا على عدم الرضا بالذل فلا الأدنى من العيش بعزة يفني ولا الحصول على الأغلى من هذه الحياة بذل يبقي على أن ما قل وكفى بعز خير مما كثر وألهى بذلة فشتان ما بين الذل والعزة وصاحب المبدأ مقتنع من أن العيش بالعزة في جحيم خير من حياة ذليلة وإن ملأها رغد الدنيا كله ولا يفهم مما قلنا أن الإنسان المبدئي مفروغ من حب الحياة ومتاعها بل هو من المحبين لها إن أتت بما يستحقه بشرف ويرفض كل منفعة تأتي بذل وطال الزمن أو قصر ستعرف ولو متأخرا بأن الأشياء الثمينة لا تقدر بثمنها إلا حينما تأخذ أو تعطى بعزة نفس فإن ما تحصل عليه إن لم يوزن بميزان الكرامة والأنفة والنبل ستنقطع منه العزة التي هي أثمن شيء فيه وإذا استمر الإنسان المعاصر في العيش بذل ولم يستطع استعادة عزته سيمرر مهانته وذلته للأجيال اللاحقة وسيصير الذل وكأنه طبع موروث ملازم له لا حيلة للفكاك منه فستعتاد النفس على النمط المعيشي المذل وسيصبح الذل وكأنه سمة بارزة تشتهر بها هذه الأجيال ويتفاقم ذلك عندما يفتقد المثل الأعلى وتتضاءل الأفكار السامية وتشوه العقيدة الدافعة للخلاص من كل ما هو لا أخلاقي يحط من إنسانية الإنسان الشيء الذي سيجعله يعيش في ظل الذل والاستكانة بأريحية تامة ومن دون أي إحساس بدناءة تلك المعيشة
التعليقات