🖋️ أحمد عماد
فى العقود الثلاثة الأخيرة، أصبح الفضاء الإعلامي بكل أنواعه- ووسائط التواصل الاجتماعي فى القلب منه- يموج بشكل متزايد بكل ما هو يعبر عن «بلطجة» وغلظة وعنف. لم تعد مقولة «لكل مقام مقال» ذات معنى، فلغة التخاطب بين الناس أضحت لا تُفرِّق بين مفردات يمكن تداولها فى المنازل أو فى دردشة حميمية بين الأصدقاء، وبين مفردات برنامج «توك شو»، أو حديث تبثه الفضائيات أو وسائط التواصل الاجتماعي. وما أكثر مَن لا يعرفون الفرق بين «الأدب الساخر» و«قلة الأدب».. بين الأداء الفكاهي والفعل الفاضح.. بين القول اللاذع والقول الفاحش.. بين الرأي الحر والانتقاد البَنَّاء، وسب وقذف وتطاول السفهاء. لقد زالت الحدود بين المرغوب والمكروه، بين الممنوع والمسموح. أصبحنا فى مجتمع يتسابق ويتسارع أبناؤه نحو قاع العشوائية الأخلاقية والسلوكية.
البلطجية اشتكوا:
البلطجة.. سلوك وأقوال وأفعال ممجوجة، تُرتكب علنًا، وبفجاجة، وبلا حياء. والبلطجة تنمو وتترعرع فى ظل غياب العدالة والمساواة فى تطبيق القوانين على الجميع.. الكبير قبل الصغير. وحينما يتكرر التغاضي والتعامي عن أى سلوك بلطجي ممجوج، وبخاصة من الشخصيات «العامة» و«المشاهير»، عندئذ تتفشى البلطجة فى المجتمع وتصبح سلوكًا اعتياديًا ومألوفًا- ارتكابًا من البلطجية واستقبالًا من المجتمع- لا يثير استنكارًا ولا دهشة. وخطورة هذا الاعتياد وتلك الألفة تكمن فى أن حجم «الجرم» يخرج من مجال دائرة العقاب والردع القانوني، ويُترك لمجال التقدير المجتمعي وفقًا للأهواء والأعراف والثقافة الشائعة.
السلوك البلطجي يشمل أيضًا كل مَن يضرب بالقوانين عرض الحائط، سواء أكان فردًا أو دولة أو شخصية اعتبارية أو هيئة أو مؤسسة. وأخطر أنواع البلطجة هو ذلك الذى يتستر ويحتمي بنفوذ أو «واسطة» أو حصانة من أى نوع. والتستر على البلطجي وحمايته هو أبشع أنواع البلطجة. وأرذل البلطجية هم مَن يرتكبون الجرم ويسارعون إلى الشكوى من ضحاياهم!
كان المبدع الرائع «علي سالم» يصف بعض مُدَّعِي الشجاعة من النخبة المداهنة ممن يتطاولون على الجميع باللصوص والنشالين، الذين عندما يتم ضبط أحدهم، وقبل أن ينهال عليه الضرب من كل صوب، يصيح مستغيثًا بأعلى صوته: «ماحدش يمد إيده إلا البيه المأمور»، ظانًّا أن فى ذلك خلاصه.
«الأخلاق الرياضية»:
«الروح الرياضية».. من المصطلحات التى عفا عليها الزمن. والرياضة فى بلدنا اختُزلت فى.. «كرة القدم»، تلك التى اختُزلت بدورها إلى «أهلي» و«زمالك». هذا أمر واقع، فى بلدنا وفى كثير من بلدان العالم. ولكن لأننا معنيون ببلدنا، فإننا لاحظنا تصاعد موجات هستيرية من التعصب الأعمى الطائش لهذين الناديين، انعكس ذلك بجلاء على ما يبثه الإعلام الرياضي بكل صوره، فضلًا عن وسائط التواصل الاجتماعي التى يجب عدم الاستهانة بها، فربما تكون هى الوسيلة الأدق فى رصد التوجهات الجماهيرية فى هذا المجال، وقياس درجة التعصب المدمر وخطورته. وهنا لا يمكن أن نعفي كل المسؤولين عن الرياضة والإعلام والأمن المجتمعي من مسؤوليتهم عن هذا الاحتقان، وتَرْك الأمور المُسبِّبة له لتتفاقم تحت أنظار الجميع. ويجب ألّا نغفل عن أن المغالاة فى التعصب الرياضي قد حوّلت «التشجيع» من عملية تسرية عن النفس وانتماء إيجابي إلى جماعة رياضية وتفريغ إيجابي لشحنة طاقة مكبوتة، إلى تأسيس وتجذير لنزعة عنف عدوانية، من السهل أن تنتقل من المجال الرياضي إلى مجالات وجماعات أخرى.
المشهد المجتمعي يكاد يبين عن علاقة تنافر وتناسب عكسي بين الرياضة البدنية والثقافة. ما أحوجنا إلى إفساح مساحة- ولو ضئيلة- للثقافة داخل عقول جماهير كرة القدم ولاعبيها والقائمين عليها، بل ما أحوج الناس جميعًا إلى قدر من الثقافة المتكاملة. والثقافة ليست ترفًا، بل إن ما نشكو منه من عقبات وتخلف وإرهاب يرجع فى المقام الأول إلى قصور ثقافي أو ثقافة أحادية مشوهة. والثقافة ليست فقط آدابًا وفنونًا وعلومًا إنسانية، فالعلوم الطبيعية ثقافة لابد من قدر منها ليتكامل البناء المعرفى للإنسان. ترى ما نسبة بث برامج الثقافة بصفة عامة، والعلمية منها بصفة خاصة، وذلك بالنسبة إلى حجم باقي البرامج؟ وما نصيبنا من الثقافة الفلسفية؟ فالفلسفة أيضًا مهمة، وكانت هى الأساس الذى انطلق منه عصر التنوير، والخلاص من التعصب الديني والمذهبي وما نجم عنهما من حروب وسفك للدماء. وكان للفلاسفة من أمثال «جون لوك» و«فولتير» و«كانط» الدور الأكبر فى ذيوع روح «التسامح»، فلنهتم ولنشجع المعرفة العامة بالفلسفة، فهى الأصل فى شحذ العقول، والتقدم المعرفي، والسمو الإنساني، ذلك بدلًا من التهكم على «الفلاسفة» و«المتفلسفين»، قانعين بموقعنا فى آخر طابور التحضر.
تربية الأبدان وتربية العقول:
لنا مكانة عالمية مرموقة فى رياضة كمال الأجسام.. منذ زمن بطل العالم «عبدالحميد الجندى» فى مطلع ستينيات القرن الماضي.. ولكننا نأمل اليوم أن يكون لنا نفس المكانة ولكن.. فى كمال العقول، لنتباهى بها. وقديمًا قالوا: «العقل السليم فى الجسم السليم».. ولم يقولوا فى الجسم «السوبر»، ولم يقصدوا الجسم المنفوخ بالمكملات الغذائية والهرمونات و«الچيم» والتمرينات الرياضية والعضلات المدهونة بالزيوت البراقة، فكل تلك العوامل قد تصنع «جسدًا» قويًا جميلًا، ولكنها لا تصنع بالضرورة «إنسانًا» قويًا نبيلًا، فضلًا عن أننا نعيش فى زمن «المخ» و«العضلات»، وقد ولَّى زمن العضلات وحدها من زماااان، منذ أن قال الفيلسوف «شوبنهاور»: «قوة الإرادة عملاق أعمى يحمل على كتفيه كسيحًا مُبصرًا». ونربأ بأنفسنا أن يكون سعينا نحو تربية أبدان من العمالقة العميان.
التعليقات