✍️ أحمد صابر
بعد الثورة الفرنسية، أم الثورات ومنبع الحريات، تم الإعلان عن وثيقة تتضمن بداخلها بنود تتناول حقوق الإنسان والمواطن، والتي صدرت عن المجلس التأسيسي عام 1789،
ثم جاء موعد صياغة الدستور، تلك اللحظة التي استغرق الحمل فيها خمسة عشر قرنًا لوضعها، كما كلفت آلاف المذابح والمعارك والحروب العقدية، وهي اللحظة التي دفع الفرنسيون ثمنها مقدمًا، أنهارًا من الدماء التي غاصت بها الأقدام، وألوانًا من الذل واستعباد الأقوام..
ها قد جاءت اللحظة الحاسمة لصياغة وإعلان بنود ذلك الدستور، وهنا لعبت الكنيسة الكاثوليكية أدوارًا بائسةً في الخفاء، علي أمل البقاء، هؤلاء اللاهوتيون حاولوا التشبث بكل ما لديهم بتقاليد العصر الملكي، علي الأقل فيما يتعلق بالكاثوليكية، دين المملكة..
أرادت الكنيسة أن تضمن هيمنتها وتحافظ علي مكانتها بشكل مختلف، بحيث تلبس قناعًا جديدًا يضعها فوق الجميع لكن بصورة مبهرجة وجميلة لا تثير غضب الثوار والمناضلين، فأخذ الكاثوليك يتدخلون ويقترحون حتي ظهرت المادة العاشرة من الدستور بهذه الصيغة : أنه يجب أن يكون هناك تسامح مع غير الكاثوليك إلي جانب السماح بحرية العبادة، هذه الكلمة الجميلة “تسامح” ربما تستطيع أن تخدع بها الشعب الفرنسي، لكنك لن تخدع فلاسفة هذا العصر، وبالفعل، سيطر الجدال علي الساحة الفكرية، واحتد النقاش حول فلسفة الحرية وخاصة فيما يتعلق بالعقيدة والدين،
حتي ظهر الكثير من الرافضين لهذه المادة وكان أبرزهم “الكونت ميرابو” ، رفض ميرابو فكرة التسامح مع غير الكاثوليك وهاجم ذلك التعبير بحدة وضراوة ، وقال بوضوح أمام المفكرين: “أنا لم آت إلي هنا للدعوة للتسامح، والحرية الدينية غير المحدوده هي أمر مقدس في نظري لدرجة أن كلمة تسامح _والتي تحاول التعبير عن هذا الحق_ هي الطغيان ذاته” ..
نعم، إن وجود هيئة لها سلطة التسامح عدوان علي حرية الفكر، فمجرد كونها تتسامح يعنى أنها تستطيع ألا تتسامح،
ولكي نقرب الفكرة إلي الأذهان، فأنت إذا قلت أنك تسامحني، فأنت تقدر على غير ذلك، وتستطيع أن تعاقبني، وبذلك كله فأنت تمتلك سلطة تجعلك في مقام أعلى مني، فمن الذي أعطاك هذه السلطة في الأساس؟ وكيف تكون الحرية حقيقية وواقعًا إذا كنت قادرًا على منعي متي شئت والتسامح معي متى شئت؟
ومن هنا، نجد أن التسامح لا يعني الحرية أبدًا، وإنما يثبت وجود الديكتاتورية من حيث أراد أن ينفيها، فكونك تسامحني لا يعنى أنني حر، بل يعنى أنك ديكتاتور تتفضل عليّ بعفوك، وربما تنقلب علي في أي لحظة..
وبعدما أنهي ميرابو حديثه في يوم 22 أغسطس عام 1792، في اليوم التالي مباشرةً تحدث النائب سانت _اتينت وقال: “إنه ظلم للأمة الفرنسية الإيحاء بأنها قادرة علي النطق بكلمة اللاتسامح، لقد ألغيت هذه الكلمة من لغتنا، نحن لا ننشر التسامح يا سادة، بل الحرية” ..
من هنا، نوقن بأن التسامح، العفو، المساندة، والأمان، كلها أفكار عليائية ظالمة للآخر، تنظر إليه بعين اذدراء، واحتقار، واستضعاف، وبتلك الفلسفة المتيقظة، تجنب الفرنسيون عصورًا أخري من الظلام الذي كان ينتظرهم حال استعادت الكنيسة الكاثوليكية وضعها واستمر اختلاط الدين بالدولة، والعقيدة بالسياسة، كما كان الحال في عصورهم الدامية، بعد هذه المعارك الفكرية، طالب المفكرون بالحرية والمساواة لكل من البروتستنانتية المُضطَهَدة ولليهود أيضًا..
يقول البروفيسور “بيردازور” إن أصل العلمانية الفرنسية، ويقصد السبب في علمنة الدولة، نابع من إعلان حقوق الإنسان والمواطن، والذي كان هدفه الوحيد هو الإنسان، بغض النظر عن دينه أو عرقه، وهنا نريد التنويه علي ما يشغل أذهان العرب عند القراءة في مثل هذا الموضوع بالذات،
هل تخلصوا من الدين؟ كلا، فلا زالت أجراس الكنائس تُدَق في أنحاء فرنسا، ولا زالت فرنسا تعج بالمؤمنين، لكنهم استطاعوا بصياغة فلسفية محكمة لمفهوم الحرية أن يتغلبوا علي الأصولية المتمكنة من قلب فرنسا،
وتمكنوا بالعلمانية أن يقيموا بلدًا ديموقراطيًا يستوعب الجميع، دون تجبر الكاثوليكية التي كانت تَعتَبر من فرنسا ابنتها البكر التي تحتضنها وترعاها، فمتى نتمكن نحن الآخرون من فهم معني الحرية؟
ومتى نتخلص من تلك الكاثوليكيات التي انتشرت بديننا الإسلامي واستوطنت بلادنا العربية؟ يبقى السؤال مطروحًا لمقالات قادمة..
التعليقات