عندما كنت أدرس للدكتوراه في بريطانيا خلال الفترة من 1997 وحتى 2000، وكانت رسالتي حول كيفية جذب المستثمر الاجنبي، أيقنت تماما السر وراء تحول دول شرق وجنوب شرق آسيا من دول متخلفة إلى دول حديثة التصنيع…
كيف أصبحت هذه الدول بقيادة الصين مصنع العالم the world factory !! نعم…مصنع العالم انتقل من أمريكا وأوروبا وصار في آسيا ومقره الرئيس في الصين…الموضوع كبير والله.
لقد كانت كلمة السر في الاستثمار الأجنبي المباشر…نعم…من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر حولت هذه الدول عجز الميزان التجاري إلى فائض!! وتحولت من دول مصدرة للبطاطس والبصل والأرز إلى دول مصدرة للمنتجات المصنعة!!
نعم…فالدول الوحيدة في العالم التي تعيش فائضا في موازينها التجارية هي إما الدول النفطية العربية أو الدول المصدرة في آسيا…فقط.
يكفي أن أفزع القاريء العزيز بأرقام، ربما تحرك الساكن في بلادنا…فأكثر من 60% من الصادرات المصنعة في الصين هي من إنتاج الشركات الأجنبية (أمريكية وأوروبية ويابانية…الخ) العاملة في الصين…أي والله.
الصين لديها الآن فائض تجاري صافي يتعدى 11 تريليون دولار…كام ياولاد؟ 11 تريليون دولار فائض يعني زيادة عن حاجتهم في بلد ال 1.7 مليار نسمة!!
حققت الصين هذا الفائض ليس من تصدير براميل النفط ولا الذهب ولكن من الصادرات الصناعية، التي أنتجت بسواعد صينية تعمل في شركات صناعية، أغلبها شركات اجنبية تعمل على أرض الصين.
فالصين، التي أصبحت أكبر مصدر في العالم منذ ديسمبر 2005 ( رقم واحد)، تجتذب سنويا أكثر من 100 مليار دولار استثمارات اجنبية…
سعت تلك الاستثمارات الاستفادة في السوق الكبير في الصين ومن العمالة الرخيصة….ولكن قبل أن تكون عمالة صينية رخيصة فهي عمالة عالية التأهيل العلمي والتقني…هؤلاء تم تأهيلهم للعمل بالمصانع وليس لقيادة أكثر من 2 مليون توك توك!! حاجة تحزن والله.
في مصر، كنا لو اجتذبنا استثمارات اجنبية ب 5 مليار دولار نقيم الدنيا ولا نقعدها، وكان أغلبها عبارة عن استثمارات استنزافية أو خدمية لا تضيف كثيرا للاقتصاد المصري.
لدينا عجز في الميزان التجاري المصري يدور حول ال 50 مليار دولار…أي أن الفرق بين ما تصدره مصر للعالم وما تستورده مصر من العالم هو عبارة عن عجز بنحو 50 مليار وهذا رقم تقريبي سنوي خلال السنوات الماضية…
هذا على خلاف الصين التي تصدر أضعاف أضعاف ما تستورده، ولهذا لديها فائض ضخم في الميزان التجاري تداين به الكبار، وعلى رأسها امريكا…أي والله الصين أكبر مقرض لأمريكا ادخل على وزارة الخزانة الأمريكية وملي عينيك.
السؤال هنا: ما الحل لمصر يا دكتور…خلصنا وجعت قلبنا؟!
والله الحلول كثيرة ومتعددة، ولكنها جميعها تدور حول قضية الإنتاج. ..فلو أنتجنا أكثر مما نستهلك وتمكنا من تصدير الفائض عن حاجتنا فإن ذلك سينعكس على ميزاننا التجاري بالإيجاب، وبالتالي تزيد صادراتنا وتقل وارداتنا لأننا ستنتج محليا ما كنا تستورده من الخارج.
بل سيبدأ الجنيه في التعافي، وربما يأتي اليوم الذي يساوي فيه الجنيه المصري واحد دولار…بتهزر؟ لا والله ما بهزر…خليك معاية بس.
ايه حكاية الاستثمار الأجنبي المباشر؟! نعم…كما فعلت دول شرق وجنوب شرق آسيا علينا أن تجهز أنفسنا أولا، ونتجمل كما تجملوا لينجذب لنا المستثمر…أيوه نتجمل!
نتجمل من خلال تشريعات عصرية ومزايا للمستثمرين وقبل كل شيء والأهم عمالة مؤهلة ومدربة والأهم أكثر إجراءات إدارية غير معقدة وحكومة اليكترونية وقصة كبيرة يطول شرحها…عندها سيأتي المستثمر ليخطب ودنا، وسنتدلل ونتقل عليه كمان.
الكلام حلو يا دكتور…بس التنفيذ…نعمل ايه؟
دون أن نضيع وقتنا مطلوب ما يلي ودون أي تاخير:
* قيام خيرة عقولنا وخبرائنا (مش قرايبنا ومحاسيبنا) بتحليل مكونات وارداتنا من العالم الخارجي…يعني احنا بنستورد أيه ومنين وبكام؟
* مثلا نعرف ان اللوادر والمعدات الثقيلة من جرارات واوناش وغيرها تستوردها من ألمانيا بقيمة وليكن 40 مليار دولار…ايه المطلوب؟
* المطلوب أنه بموجب هذا البيان والمعلومات الدقيقة، يقوم وزير الاستثمار بارسال بعثة علمية لمدة 3 أشهر لألمانيا لدراسة مقومات احتضان هذه الصناعات الثقيلة…نعرف الناس دي عايزة ايه؟ عايزين عمال بمهارات معينة وظروف عمل معينة ومعاملة ضريبية معينة….نعرف عايزين أيه.
* تعود هذه البعثة المكونة من 2 أو 3 من خيرة عقولنا كما ذكرت، وتكون قد كونت تصور واضح ودقيق لاحتياجات شركات الصناعات الثقيلة…راجعين بالعلاج.
* ثم نعكف في مصر من خلال وزارة الاستثمار والصناعة على توفير هذه المقومات…ثم يتحرك وزير الاستثمار ليقوم بزيارة لمقر هذه الشركات في المانيا، أو دعوة رؤسائها لزيارة عمل لمصر تتكفل الحكومة المصرية بها بشكل كامل من وإلى المطار…بحيث يرون ما وفرته مصر لهم من فرصة استثمارية تلهب شهيتهم.
* ما أقوله ليس ضربا من الخيال والله…هذا تعلمناه في اوروبا، هذا ما فعله بالضبط دمحاتير محمد، صانع نهضة ماليزيا…ليه ما سألتش نفسك ليه شركة سوني – مثلا – خرجت من اليابان وراحت على ماليزيا من 30 سنة ولم تأتي الينا؟
* علمونا الإنجليز أن محاتير هو أول من استطاع ترويض الشركات الأجنبية. ..ولهذا لا تعجب أن تعلم أن ما يقرب من 80 % من الصادرات الصناعية في ماليزيا هي من إنتاج الشركات الأجنبية. ..تغير هيكل الاقتصاد الماليزي من هيكل متخلف يغلب عليه إنتاج وتصدير المواد الخام إلى هيكل صناعي مشرف…المهم.
بهذه الطريقة ستأتي شركات الصناعات الثقيلة الألمانية لتقيم مشروعاتها في مصر وتخدم السوق المصري وتغطي حاجته، ليس هذا فقط بل ستتخذ من السوق المصري منصة للانطلاق والتصدير لأفريقيا وآسيا. ..الخ..
بهذه الطريقة سنوفر العجز في ميزات المدفوعات، بل يمكن أن نحوله إلى فائض…اي والله…وسنخفف الضغط على الجنيه لأننا لن نكون بحاجة لل 50 مليار دولار لاستيراد المعدات الثقيلة وبالتالي يبدأ الدولار في الهبوط.