السبت الموافق 08 - فبراير - 2025م

عماد عنان يكتب: حين أصاب “ترامب” وأخطأ العرب !

عماد عنان يكتب: حين أصاب “ترامب” وأخطأ العرب !

عماد عنان يكتب: حين أصاب “ترامب” وأخطأ العرب !

 

 

 

في إحدى زياراته لمنطقة الشرق الأوسط في سبعينيات القرن الماضي، طلب هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي – آنذاك- من قسم التخطيط السياسي في وزارته، تقديم رؤية تساعده على فهم المنطقة وطريقة تفكير حكامها، في محاولة لسلك أقصر الطرق وأنجحها في التعامل معهم، في وقت كانت تسعى فيه أمريكا إلى كسب حلفاء جدد في مواجهة الاتحاد السوفيتي.

 


وبعد أيام قليلة من هذا الطلب فوجئ كيسنجر بعشرات الدراسات والتقارير المقدمة، لكن ما لفت نظره تقريرًا لا يتجاوز صفحتين، كان تحت عنوان “الخيمة والسوق” لباحث يسمى “ريتشارد هاس” أصبح بعدها أحد أكبر المحللين المقربين من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة.
هاس قسم تقريره إلى محورين رئيسيين: الأول: “الخيمة” وفيه قال «إن ثمة خيمة كبيرة داخل كل دولة عربية، يجلس الزعيم في صدرها، يلتف حوله المقربون من المسئولين وبعض ممثلي الشعب” موصيًا في تقريره بـ ” عدم الالتفات والاهتمام بالصخب أو الأصوات العالية في جوانب الخيمة، فالزعيم وحده يملك القرار ويجب العمل معه مباشرة، ولا بأس من المبالغة في الإطراء والمديح، للحصول على المطلوب”، فالشعوب لا قيمة لها على طاولة التفاوض.
الثاني: “السوق” وفيه أشار الباحث الأمريكي أن المفاوضات مع الحكام العرب قد تبدأ من سقوف عالية، ومطالب قد تبدوا في البداية أنها مبالغ فيها وصعبة، لكن مع مرور الوقت يهبط هذا السقف رويدًا رويدًا، وقد يصل إلى النقطة “صفر” كما التاجر في السوق والذي يقسم على ثمن معين لبضاعته ثم مع الجدال والتفاوض يهبط بالثمن إلى الحد الذي يرضي المشتري، فلا تقاس ردود الفعل حين بدايتها، لكن مع الوقت يمكن تقييمها بشكل أكثر واقعية.

 


في خطوة استفزازية أخرى، قالت وزارة الخارجية الأمريكية، أول أمس الجمعة، إن الولايات المتحدة سوف تفتح سفارتها الجديدة في القدس في أيار/مايو القادم، بالتزامن مع الذكرى السبعين لقيام دولة “إسرائيل” وذلك بعد 80 يومًا من قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.

 


ما كان لواشنطن أن تقدم على هذه الخطوة لولا تفريغ شحنة الغضب العربي وسيادة حالة الهدوء والسكينة على المشهد برمته في أعقاب قرار نقل السفارة في ديسمبر الماضي، الذي أثار – وقتها- حالة من الجدل والغضب، سواء داخل عدد من العواصم العربية أو بين أوساط سيادية في الولايات المتحدة
عشرات علامات الاستفهام أطلت برأسها باحثة عن إجابة حيال خط سير رد الفعل العربي تجاه القرار الأمريكي، الذي بدأ بلهجات تصعيدية من بعض العواصم التي هددت بقطع العلاقات مع واشنطن وتل أبيب، تلاها عقد عدد من الاجتماعات سواء في القاهرة أو اسطنبول، ثم جلستين أمميتين، أحدها داخل أروقة مجلس الأمن والأخرى فوق منصة الأمم المتحدة، ثم سرعان ما هدأت العاصفة وخفت الصوت لتعود الأوضاع إلى طبيعتها، إن لم تكن أسوأ مما كانت عليه، ليصدق الرئيس الأمريكي حين قال إن الغضب العربي من قراره لن يتجاوز بضعة أيام ثم تعود الأمور إلى طبيعتها.. فهل أصاب ترامب وأخطأ العرب؟

 


تناقض فلسطيني
جاء الرد الفلسطيني في أعقاب القرار المشئوم بعقد جلسة طارئة للمجلس المركزي، قرر الرئيس محمود عباس أبو مازن، خلالها، وقف جميع أشكال التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي، وملاحقة مجرمي الحرب من الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية، في خطوة وإن كانت لا تتناسب مع الحدث إلا أن مردودها الداخلي كان إيجابيًا لدى قطاع كبير من الفلسطينيين ممن آلمهم التعاون الفج بين السلطة الفلسطينية وتل أبيب.

 


إلا أن الأمر حين جاء وقت التطبيق الفعلي تحول إلى سراب، وتبخرت الكلمات وانزوت الشعارات خلف ستائر الواقع المرير، فلم توقف قوات الأمن الفلسطينية التنسيق مع الجانب الصهيوني، بل ضاعفته وزادت من وتيرته بصورة أثارت الجدل والاحتقان في آن واحد، حيث ساهمت في تقديم معلومات عن المقاوم الفلسطيني أحمد جرار، قائد عملية قتل الحاخام الإسرائيلي في مستوطنة قرب نابلس، كان لها الدور الأكبر في اغتياله من قبل الجانب الإسرائيلي.

حتى فصائل المقاومة، التي رفضت حضور هذه الجلسة، وعلى رأسها حركتي “حماس” و”الجهاد” اكتفت بقرار المقاطعة دون اتخاذ أي تدابير أخرى من شأنها الدفاع عن المدينة المقدسة، وبات المواطن الفلسطيني – غير المصنف سياسيًا- وحده من يقود هذه المواجهة بصدور عارية في مواجهة رصاص عناصر الاحتلال.

 


تخاذل عربي
لم يختلف رد الفعل العربي عن نظيره الفلسطيني، إن لم يكن أسوأ، ففي الوقت الذي انتفضت فيه القاهرة لرفض القرار الأمريكي، والتمسك بالهوية العربية للقدس، والدعوة لعقد اجتماع طارئ لمناقشة تداعيات القرار وسبل الرد عليه، إذ بالجميع يستيقظ صبيحة الاثنين 19 من فبراير 2018، على خبر إعلان مجموعة “ديليك” الإسرائيلية للطاقة، التوصل إلى اتفاق بين شريكها الأمريكي “نوبل إنيرجي” لتزويد شركة “دولفينوس” المصرية بـ64 مليار متر مكعب من الغاز، بقيمة 15 مليار دولار.

 

 

الصفقة التي تعد الأكبر منذ بدء تطبيع العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، جعلت رئيس الوزراء الإسرائيلي، يَرْقُص طَربًا، واصفًا هذا اليوم بـ “العيد” ليس من قيمة المبلغ ومعاني الصفقة التطبيعية فحسب، وإنّما أيضًا من تَولِّي الجانب المصري مُهمّة تَسويق فائض الغاز الإسرائيلي المسروق فلسطينيًا ومصريًا إلى دول أوروبية وعربية أخرى.

 


وفي الأردن الوضع لم يختلف كثيرًا، فبدلا من التصعيد المتوقع من جانب عمًان التي تتولى الوصاية الدينية على القدس المحتلة، ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، وتمارس كل أنواع الضغط ضد تل أبيب، إذ بها تعاود فتح سفارة الكيان الصهيوني في بلادها، وتعيد العمل فيها، بذريعة تقديم الجانب الإسرائيلي اعتذارا رسميًا على مقتل 3 من مواطنيها في الهجوم الذي وقع مؤخرًا.

 


وفي تونس، وفي ظل الانتفاضة الشعبية التي تطالب بتجريم كافة أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، هاهو البرلمان يرفض مقترحًا بتبني مشروع قانون يجرم التطبيع مع دولة الاحتلال، علاوة على ذلك ما بدر من قناة “الجزيرة” التي سمحت ولأول مرة للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، بالظهور عبر شاشتها، مدافعًا عن وجهة النظر الصهيونية.

 


سعوديًا.. الأمر يسير وفق منحنى تطبيعي متصاعد يسير وفق خطوات ثابتة، متجاهل لكافة المستجدات الطارئة على الساحة الفلسطينية، وذلك بعد العزف المتكرر للرياض على وتر أن إيران وليس “إسرائيل” هي العدو الأوحد والأخطر التي يهدد المنطقة، والذي يستوجب التكاتف والتعاون مع كافة القوى للتصدي له، حتى ولو كان مع دولة الاحتلال التي لم يرى منها السعوديون أي إساءة أو عدوان حسبما جاء على لسان بعضهم في تغريدات سابقة.

 


فمن التنسيق الأمني بين السلطات الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية، مرورًا بغاز تل أبيب المصدر للقاهرة، وفشل البرلمان التونسي في إصدار قانون يجرم التطبيع، عطفًا على إعادة عمًان فتح سفارة الكيان الصهيوني لديها، وصولا إلى الهرولة السعودية نحو تعميق العلاقات مع دولة الاحتلال، تسير “صفقة القرن” حسب المرسوم والمعد بشكل جيد، وتبقي شعارات الإدانة والشجب والاستنكار هي الأداة الوحيدة التي ينجح فيها العرب في امتصاص غضب شعوبهم.

 


ومن ثم فإن التعويل على رد فعل عربي حاسم تجاه خطوة التحرك الفعلي للبدء في بناء السفارة الأمريكية في القدس تمهيدًا للتنفيذ العملي لقرار ترامب، درب من الخيال، حتى وإن خرجت العواصم العربية عن بكرة أبيها تندد وتشجب وتستنكر، ويبدوا أن الأمريكان قد نقلوا تجربة “الخيمة والسوق” للصهاينة للتعامل بها عربيًا، لتثبت الأيام صواب ترامب حين قال إن رد الفعل العربي لن يستمر طويلا، لتعود الأوضاع إلى ما هي عليه إن لم تكن أسوأ.

 التعليقات

 أخبار ذات صلة

[wysija_form id="1"]
إعلان خدماتي

جميع الحقوق محفوظة لجريدة البيان 2015

عدد زوار الموقع: 79676918
تصميم وتطوير