بقلم الكاتب الصحفي محمد حماد
سألني متشفيًا
أخدت إيه من السياسة غير السجن وفقر الحال
ارتبطنا بعلاقة عابرة تسودها مودة وتقدير متبادل بين مختلفين، كان يغريني فيه انفتاحه على أشياء كنت غشيما فيها، وكان يغريه فيَّ ـ ربما ـ تلك البراءة في شاب لم يختبر من الحياة غير المسجد والبيت وكثرة القراءات في مواضيع شتى ليست محل اهتمام من هم في عمر المراهقة الأولى.
لا أذكر الملابسات التي نشأت فيها علاقتي بهذا العابر الذي لم يكن في مدرستي ولا من سكان الشارع الذي أسكن فيه، ولم يكن يجمعنا غير السكن في الحي نفسه، وكان دائماً هو المبادر إلى لقائي، يأتي إلى بيتي، فأخرج إليه ونمضي إلى حيث نريد.
أخمن أن أخاه الأكبر الذي زاملني في الفصل في المرحلة الثانوية هو السبب وراء اندفاعه إلى هذه العلاقة، وكان أبوهما من رجال الشرطة الكبار، نجح أخوه بمجموع يدخله كلية الشرطة، وكنت قد خبت في الثانوية ـ على غير العادة في مشواري الدراسي ـ واضطررت لإعادة السنة فزاملت من كانوا أصغر مني بسنة ومنهم أخو زميلي الذي اقترب مني حتى صرنا متقاربين جداً في تلك السنة من حياتي.
مرة واحدة دخلت فيها بيته ولم يكن فيه أحد من أسرته، وكان في نفس البيت محل طعمية وفول شهير في حيينا، فاشترى صديقي بعضاً من الجبن الأبيض وطلب من المحل أن يرسلوا اليه بعضاً من الطعمية الساخنة،
صعدنا الى شقته فدخل من فوره ليصنع لنا كوبين من الشاي، حتى إذا ما انتهى منه كانت أمامنا وجبة إفطار صباحي شهية، ووجدته يقرن بين الأكل وشرب الشاي مع كل لقمة، وبقي له في ذكرياتي أنني تعلمت منه الجمع بين أكل الطعمية والجبنة البيضاء وبين شرب كوب الشاي في نفس الوقت، وكنت من قبل أختم بالشاي.
ومن بعد صارت الطعمية والجبنة والشاي ثلاثي لا يفترق في كل افطار صباحي من وقتها وحتى وقت قريب، ولا زلت أفعلها بين الحين والآخر حين يهفني الحنين الى افطار فاخر أغالط به قولوني المتعب وأتناسى معه نسبة الكوليسترول والدهون الثلاثية لأغوص في لذةٍ مقتطعة من زمن جميل.
كان اسم هذا “الصديق الطارئ” يوافق اسم أحد مشاهير كرة القدم في ذلك الوقت، وظل أحد أقاربي الأصغر مني يحمل لي تقديراً خاصاً بعد أن تصادف وجوده في البيت وقت مجيء صديقي هذا، وكان من حظه أنه هو الذي فتح له باب البيت الخارجي، فذكر له اسمه، وكان قريبي هذا يشجع النادي الذي يلعب له اللاعب الذي يحمل اسم صديقي، فبادره بالسؤال:
– هو انت كابتن فلان الذي يلعب للنادي الفلاني؟
وفي نوبة هذار قال له صديقي: نعم، ومن يومها ارتفعت أسهمي لدي قريبي الصغير.
كان حلم صديقي أن يلتحق بالشرطة مثل أبيه وأخيه الأكبر، وحين نجحنا في الثانوية العامة خرجنا معاً لنشتري طقماً جديداً، بنطلون وقميص وأقنعني بشراء قماش لتفصيل بنطلونين وشاركني اختيار نوعية القماش ولونه وذهبنا إلى ترزي يعرفه وفصلت لأول مرة بنطلون “رجل الفيل”، وهي الموضة التي انتشرت وقتها ولاقت امتعاضاً وسخرية من أهلي الذين اعتبروا ، “الواد باظ وبقى يلبس رجل الفيل زي بتوع السنيما ” ، ودخلت في مماحكات معهم انتهت بتضيق رجل البنطلون الى 28 سم بعد أن كانت فوق الثلاثين،
واعتبرت ذلك حلاً وسطاً بين ما يريدون وما أرغب، واعتبروه أهون الشرين.
دخلت الجامعة والتحق هو بكلية الشرطة، ثم افترقت بنا السبل. ومضى كلٌ في طريق.
في الجامعة توسعت مداركي وتنوعت قراءاتي وتعرفت على قادة الحركة الطلابية التي كانت تمور بها الجامعات في السبعينيات، وشاركت بجهدي في فعاليتها، وقبض عليَّ وأنا في السنة الثانية من دراستي الجامعية في “حبسة يناير 1977″، وصرت صاحب ملف في البوليس، وتكرر حبسي من بعد مراتٍ، وكان صاحبنا قد صار ضابطاً بأمن الدولة، ولم يحدث أننا التقينا في تلك الفترة نهائياً.
بعد مرور بعض عمرنا قابلته بالصدفة، وكانت قد تغيرت أحوال كثيرة وكنا في بداية الخمسينيات من أعمارنا، كنت أشتري بعض المعجنات من محل شهير في ميدان سفنكس بالمهندسين، فجأة وجدتني إلى جواره وهو يتعجل الرجل الذي يصاحبني في انتقاء ما أريد لكي ينهي الأوردر الخاص به.
نظر إليَّ فعرفني قبل أن أعرفه، وسلم عليَّ بأطراف أصابعه، وسألني ببرود عن أحوالي، فتشاغلت عنه مع رجل المحل، وحاول هو أن يظهر ما له من نفوذ فنادى بصوت مرتفع على أحدهم لكي يلف له ما اشتراه.
خرجت من المحل فوجدته يضع مشترياته في الحقيبة الخلفية لسيارته البيجو، فبادرني بالسؤال ما إذا كان معي سيارة، فقلت له سأركب تاكسي، ثم وأنا أسلم عليه أشرت إلى تاكسي فتوقف أمامنا بالضبط، فوجدته يقول لي:
– ماذا فعلت بحياتك، وما الذي كسبته من السياسة غير السجن، وفقر الحال؟
فتحت باب التاكسي الأمامي إلى جوار السائق وأنا أقول لصديقي العابر:
– تحب أقول لك كسبت إيه بس على شرط ما تزعلش؟
قال متحدياً: وأزعل ليه؟
قلت: كسبت أنني حين أضع راسي على المخدة أنام من فوري وضميري مرتاح.
ودلفت الى التاكسي وأنا أنظر في وجهه وقد بدا عليه وكأنني دسست ملحاً في جرحٍ قديم لم يندمل.
محمد حماد
التعليقات