السبت الموافق 18 - يناير - 2025م

اتفاق النصر الفلسطينى

اتفاق النصر الفلسطينى

بقلم :: عبدالحليم قنديل

قبل أكثر من ستة شهور ، وفى صباح السبت 13 يوليو 2024 ، كتبت ونشرت مقالا فى هذا المكان نفسه عن احتمالات عقد صفقة وقف النار فى “غزة” ، قلت فيه ببساطة ، أنه لا فرصة لاتفاق من هذا النوع إلا مع أجواء تنصيب “دونالد ترامب ” رئيسا فى 20 يناير 2025 ، ولم أكن وقتها أقرأ الرمل ولا أضرب الودع ، بل كان التوقع مبنيا على سلوك “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء العدو ، وعلى فرصه المتاحة للمناورة مع ساكن البيت الأبيض المنصرف “جو بايدن” ، فقد كان “بايدن” وقتها لقى هزيمة مخزية فى المناظرة الأولى مع “ترامب” ، وكانت الأصوات تتعالى لإخراجه واستبداله فى سباق الرئاسة ، وكان “بايدن” فى وضع “البطة العرجاء” بل المشلولة تماما ، وفى عام الرئاسة الأمريكية الأخير كالعادة ، يصعد نفوذ “اللوبى الصهيونى” ـ “الأيباك” وأخواتها ـ إلى أعلى ذراه ، وهو ما يفهمه جيدا “نتنياهو” ، الذى صعد دوره إلى درجة إذلال إدارة “بايدن” ، مع استغلال طموح “ترامب” لنيل رضا “اللوبى الصهيونى” و”نتنياهو” شخصيا ، وبالغ “ترامب” على طريقته الفجة فى إبداء المحبة والولاء لكيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، ولقى “نتنياهو” استقبالا حافلا عامرا بمئات نوبات التصفيق خلال خطابه فى “الكونجرس ” بمجلسيه يوم 24 يوليو 2024 ، وبدا “نتنياهو” كأنه سيد البيت الأبيض الأول ، إضافة لرئاسته حكومة “إسرائيل” الفرعية فى “تل أبيب” ، ومن موقع القوة المتضخمة ، واصل “نتنياهو” تنفيذ خطته ، أى (استمرار الحرب فى غزة ، وربما مد الحرب إلى لبنان ، حتى يأتى ترامب إلى البيت الأبيض) كما كتبت حرفيا فى مقال 13 يوليو الماضى ، ونفذ “نتنياهو” ما أراد ، ذهب إلى الحرب البرية مع “حزب الله” ، وإن لم يتمكن من جلب صورة “نصر ساحق” كان يحلم بها ، واضطر للموافقة على “اتفاق هدنة” ، وواصل بشراسة حرب الإبادة الجماعية على “غزة” ، ولم يتمكن هنا أيضا من تحقيق أهداف حربه المجنونة ، وإن أعاق التفاوض مرات حول اتفاق وقف النار وتبادل الأسرى ، وتصدى بصلف وعجرفة لكل رغبات إدارة “بايدن” ، ولكل اقتراحاتها “الإسرائيلية” أصلا ، وأطاح بما عرف بعنوان صفقة “بايدن” المعلنة مساء 31 مايو 2024 ، ولترجمتها الحرفية فى قرار مجلس الأمن الدولى رقم 2735 ، ولكل مسودات اتفاقات التفاوض فى “باريس” و”القاهرة” و”الدوحة” ، التى شارك وضغط بها كل مبعوثى إدارة “بايدن” ، وأولهم “مايكل بيرنز” مدير المخابرات المركزية الأمريكية ، وكان الاتفاق المطروح فى كل هذه الجولات ، هو نفسه الذى اضطر أخيرا للموافقة عليه ، بعد أن تغيرت معادلة التفاعل مع البيت الأبيض بعد فوز “ترامب” على نحو ساحق فى الرئاسة والكونجرس ، فبعد أن ظل نتنياهو لشهور آمرا مطاعا يخضع له “بايدن” و”ترامب” معا ، انقلبت الموازين إلى صيغة أخرى ، يتحكم بها “ترامب” وحده ، ويخضع له “بايدن” و”نتنياهو” معا ، وبدا ظل “ترامب” حاضرا فى اتفاق هدنة لبنان وأكثر فى مفاوضات اتفاق “غزة” .

 

وربما تنطوى القصة على مفارقة ظاهرة ، فقد بدأ “ترامب” سيرته مع قصة “غزة” على نحو مختلف ، وأطلق تهديدا بالذهاب إلى “جحيم” ، تصوره ضاغطا على “حماس” وأخواتها فى التفاوض ، وبدا التهديد وقتها مثيرا للسخرية ، فما كان بوسع حكومة “إسرائيل” فى واشنطن أن تفعل أكثر ، وهى شريك كامل الأوصاف فى حرب الإبادة الجماعية ، وفعلت كل ما بوسعها من “جحيم” عبر نحو 16 شهرا من الحرب البربرية ، ومن دون أن يتحقق شئ من الأهداف المعلنة والضمنية للعدو الأمريكى “الإسرائيلى” ، اللهم إلا مضاعفة التوحش فى إبادة الحجر والبشر والشجر ، ووضع أهل “غزة” فى عذاب أسطورى ، ولكن من دون أن يخفت صوت المقاومة الأسطورية ، التى زادت فى تحديها البطولى لحمم وقنابل وحمم متفجرات بلغت زنتها نحو مئة ألف طن ، ألقيت على رأس “غزة” ، وقتلت وأصابت وقطعت أشلاء نحو مئتى ألف فلسطينى معلوم ومفقود ، أغلبهم من النساء والأطفال الأبرياء ، فى أبشع مجزرة ومحرقة شهدتها الحروب ، فقتلت الأبرياء بالقصف والتجويع والتجمد فى الصقيع ، وحرمت الضحايا من كل إغاثة طبية بالتدمير شبه الكامل للمرافق والمستشفيات والمدارس والبيوت وحرق الخيام ، ومنع فرق الإسعاف المدنى من الوصول إلى المصابين والشهداء ، وترك الجثث فى الخلاء تنهشها الكلاب الضالة ، وقتل النازحين فى كل مكان يذهبون إليه ، حتى فى الأماكن الموصوفة كذبا بالآمنة ، ورغم كل هذا الهول الأفظع ، كانت قوات الاحتلال تتلقى الهزائم المتلاحقة فى ميادين القتال المتلاحم ، وكان المقاومون من “حماس” وأخواتها ، يبدعون على نحو مذهل ، ويعيدون تدوير قذائف العدو التى لم تنفجر ، ويضيفون زادا جديدا إلى ورش التصنيع الحربى الذاتى ، ويدبرون الكمائن المميتة لنخب قوات الاحتلال من شمال “غزة” إلى جنوبها ، ويفشلون “خطة الجنرالات” الهادفة للتطهير العرقى الشامل فى “جباليا” و”بيت لاهيا” و”بيت حانون” شمال مدينة “غزة” ، وإلى حد دفع العدو الأمريكى “الإسرائيلى” إلى حافة جنون ، عبر عنه “أنتونى بلينكن” وزير خارجية “بايدن” ، بإعلانه قبل أيام ، أن قوات “حماس” عادت إلى حجمها الأول صباح 7 أكتوبر 2023 ، وأن آلافا متكاثرة جرى تجنيدها من قبل “حماس” وأخواتها ، بينما ذهب الجنرال “جيئورا آيلاند” إلى إعلان فشل “خطة الجنرالات” التى وضعها بنفسه ، وقال أنه لا أمل فى تنفيذها ، وأنه لا بديل عن الانسحاب “الإسرائيلى” بالكامل من “غزة” ، وكان “ترامب” وإدارته يتابعون حقائق الميدان عن قرب ، وأدركوا أن حرق “حماس” وأخواتها فى الجحيم غير ممكن ومحض وهم ، فالمقاومة تنمو وتتوالد ذاتيا ، ودونما حاجة إلى مدد لم يأت عبر الحدود ، وأن استنزاف قوات العدو ماض إلى نهايته ، وهو بعض ما دفع “ترامب” البراجماتى إلى وجهة أخرى ، تضغط على “نتنياهو” لتجرع سم اتفاق وقف النار ، بعد أن ثبت مرارا وتكرارا أن القوة الأمريكية “الإسرائيلية” الإبادية لم ولن تفوز أبدا فى المنازلة النارية مع الشعب الفلسطينى ومقاومته ، وأنها لن تنجح فى تهجير الشعب الفلسطينى إلى خارج أرضه المقدسة ، رغم كل هذا العذاب الأسطورى ، وأنه لا سبيل لاجتثاث حركات المقاومة الأسطورية ، وأن ما أخفقوا فى إحرازه بقوة السلاح قد يكون أيسر فى التحقق ، لو تحولوا إلى السياسة ، وانتقلوا إلى اتفاق ثلاثى المراحل لوقف الحرب ، تدور عناصره الأساسية ، كما صمم عليها المفاوضون الفلسطينيون ، حول التدرج فى وقف النار من الموقوت إلى المستديم ، وحول فتح سبل إغاثة الشعب الفلسطينى وإعادة الإعمار اللاحقة ، وإطلاق سراح آلاف من الأسرى الفلسطينيين ، وانسحاب قوات الاحتلال من “غزة” على مراحل ، وفتح معابر الإمداد الإنسانى ، وإعادة كل النازحين الفلسطينيين من جنوب “غزة” إلى سكناهم فى الشمال ، وهذه هى الملامح الكبرى للاتفاق الجديد القديم ، الذى دأبت حكومة الاحتلال على رفضه وإعاقته لثمانية شهور مضت ، ثم يخضع له اليوم “ترامب” و”نتنياهو” معا ، ربما على أمل الاستعاضة عن فشل حرب “غزة” ، والانتقال إلى حرب العصف بالضفة الغربية ، وعقد اتفاقات “إبراهام” جديدة مع دول عربية مضافة .

 

ومع وقف النار فى حرب “غزة” ، وضعف الثقة فى ضمانات تنفيذ أى اتفاق مع كيان الاحتلال ، إلا أن تكون المقاومة على الموعد فى أحوال الإخلال الإسرائيلى الوارد طبعا ، وفى كل الأحوال ، فجولة الحرب الأخيرة لم تكتب كلمة النهاية ، ولم يحقق العدو فيها نصرا بأى معنى ، رغم كل ما جرى من دمار وقتل ، وهذه هى الخاتمة ـ التى صارت معتادة ـ لكل حرب تخوضها “إسرائيل” مع المقاومة الجديدة ، وفى صورة حروب غير متناظرة ، يملك فيها العدو ما لا تملكه المقاومة ، والعكس بالعكس ، لكن النتائج تظل كما هى ، فالعدو ينهزم حين لا تتحقق أهدافه ، والمقاومة لا تهزم حين لا تفنى ، وحين تثبت قابليتها للتجدد رغم قسوة الظروف ، فبقاء المقاومة يعنى المقدرة على استئناف المواجهات الحربية، وبقاء المقاومة يعنى تجدد الأمل فى نصر كامل ، تستعاد به الحقوق المقدسة للشعب الفلسطينى المظلوم ، الذى أثبت مقدرته اللانهائية على الصبر وتحمل التضحيات بغير حدود ، فقد أثبتت تجربة الحرب بعد “طوفان الأقصى” ، أن بوسع الشعب الفلسطينى المحاصر ، أن يتفوق ويهتدى بتجارب كفاح الجزائريين والفيتناميين ، وأن يواصل الاستمساك بمقاومته العنيدة حتى تعود النجوم إلى مداراتها ، ويستعيد حقه كاملا فى الحياة والحرية ، مهما بلغت التضحيات وتضاعفت العذابات ، ومهما خذله المتخاذلون ، ومن حق الشعب الفلسطينى اليوم أن يفرح بالاتفاق الجديد ، وأن يفخر بدماء الشهداء التى هزمت سطوة وجبروت سيف العدو ، وأن يحلم بالنصر الكامل فى قابل الأيام والحروب

 التعليقات

 أخبار ذات صلة

[wysija_form id="1"]
إعلان خدماتي

جميع الحقوق محفوظة لجريدة البيان 2015

عدد زوار الموقع: 79250254
تصميم وتطوير