الجمعة الموافق 07 - فبراير - 2025م

أحمد صابر يكتب ” هروب إلي الموت “

أحمد صابر يكتب ” هروب إلي الموت “

 

بقلم _ أحمد صابر

في صباح كل يوم ، أجد نفسي مرغمًا علي الضحك ، مجبرًا علي التمثيل في مسرح الأيام وتجسيد شخصية البطل الذى لا ُيهزم ، مضطرًا لاستعارة البسمة علي وجهي الكئيب ،
حتي في أحلك الظروف وجُل الأحداث ،
ولست بطبيعتي ممن يجيدون فن الإخفاء ، أو يبرعون باصطناع السعادة علي وجوههم أو تزييف ظواهرهم ،
لكنني رغم ذلك لست أيضًا ممن يحبون البكاء علي الأطلال واستعداء الدنيا والهروب إلي هواجس المؤامرات ولعن الظروف والأحداث ،
أحب أن أعيش ما أمر به كما هو ، دون هروب أو تهويل ،
لذلك فدائمًا ما أجول بالطرقات الفارغة التي يهجرها الجميع لأستعيد تكشيرتي المفضلة ولا أجد نفسي مضطرًا لإظهار ابتسامةٍ صفراء كلما قابلت أحدهم أو سلمت عليه ، أحب أن أكون علي سجيتي ليس أكثر ،
ولست أجلس إلا وحيدًا لأنفث الضيق الذي أشعر به متي أردت ، دون أن أضطر إلي إخراجه في صورة ضحكات عالية أو نكات سخيفة ،

أردت فهم ما يحدث لي ، لماذا أختار تلك الوسطية المرهقة ؟
لماذا لا أضحك ليل نهار كبقية أصدقائي في المقهي وأودِّع تلك الهموم التي أثقلت كاهلي وشيبت رأسي !
أو لماذا لا أعلن استسلامي كالآخرين وأعيش دون ذلك الأمل المرهق الذي يضطرك إلي تحمل الكثير من الأمور الصعبة !
ما وجدته في نهاية المطاف أنني أقف وحيدًا في وسط الطريق ، هناك أشخاص مثلي لا أعرفهم ، لكنهم قليلون ،
فالبقية إما هاربون طيلة الوقت وإما مستسلمون ..

سامر ، صديقي الجامعي ، قبل أن أتعرف عليه وأخترق دائرة المقربين منه ، كنت أحسبه أسعدَ طالب في الجامعة ،
أراه يضحك طوال الوقت ،
يبتسم لجميع الخلق دون سبب واضح أو مبرر مفهوم ،
لا تفوته أي مناسبات سعيدة أو خروجات ترفيهية ،
إنه رئيس لجنة الرحلات في اتحاد الطلاب بالجامعة ، لذلك فهو عنوان السعادة أمام الجميع ، إلي جانب أنه يشغل منصب زير النساء بالجامعة ، وهذا في مخيلتنا سبب يبعث علي تلك السعادة الدائمة ،
في قرارة نفسى كنت أتساءل كيف لإنسان أن يحيا بهذه البساطة دون أي تحديات في حياته !!
وأول ما جلست منفردًا معه وجدت إنسانًا آخر غير الذي أراه ، شخصًا لا يجيد سوي الهروب ، دائما يهرول أمام شئ ما خفيٍ يطارده بعقله ،
يخاف من مجرد الحديث عنه ، إنه الفشل .. صديقه الملازم وعدوه اللدود الذي يحاول أن يتناساه بكل وسيلة ممكنة عدا المواجهة ،
هو يضحك كثيرا ليصمد ، ليؤجل لحظة الإنهيار ، منذ أعوام وهو كذلك لا يتغير ، ولن يتغير ..

علي الجانب المقابل سلمي ، فتاة كئيبة لا يداعب ثغرها الجميل ابتسامة عابرة ، وكأنها تتواجد بجسمها فقط في كل مكان تحل به ، تاركةً روحها في مكان آخر بعيد عن عالمنا ، أعتقد ان الحزن يعشقها ، لأنها جميلة ، هو فقط لا يريد أن يتركها وحيدةً ،
لقد اختارت سلمي ألا تهرب كما يفعل صديقي سامر ،
لكنها اختارت ما هو أسوء من الهروب ، اختارت ألا تختار ، لقد استسلمت تمامًا لما تمر به ، أصبحت أرضًا محتلة ليست قادرةً علي مقاومة ذلك الكيان المغتصب الذي يرفرف بأعلامه علي جسدها الهزيل منذ أعوام طويلة ، إنه ذلك الإكتئاب الملعون ،
هي لا تفعل شيئًا غير أنها تنتظر ذلك الفارس الذي يذهب إليها بجواده الأبيض ليعيد لها كل شئ ويبعث علي جسدها الحياة ،
منذ أعوام وهي كذلك لا تتغير ، ولن تتغير ..

لماذا يضحك الناس كثيرًا رغم صعوبة ما يمرون به ؟
إنه الهروب من المواجهة ، وهذا الضحك هو القهر الدفين بأعماقنا وليس تفاؤلًا أو سعادةً كما يعتقد الكثير ..
ولماذا ينطفئ الآخرون ؟
إنه الإستسلام ، وليست الواقعية أو التعقل كما يسميها الجميع ..

كيف يفترض أن نتعامل مع مشكلاتنا ؟

بينما أفكر في طبيعة الموضوع وأقلب الأفكار في رأسي ، تذكرت اثنين من فلاسفة اليونان ، هيرقليطس ولقبه
” الفيلسوف الباكي ” وديمقريطس ذلك الملقب ب
” الفيلسوف الضاحك ” ،
هيرقليطس كان يبكي كلما صادف رجلًا فقيرًا أو مر بظروف ضيقة ، حتي عرفه الناس بالبكاء والحزن ،
وديمقريطس كان علي النقيض تمامًا ، يضحك كلما رأي مَن يبكي أو يشتكي مصاعب الدنيا ، ذلك لأنه جال بلادًا وطاف أقطارًا ورأي الكثير من نوائب الدهر وتقلبات الزمان والتي أكسبته مناعةً جعلته يري كل صعب يسيرًا فلا يهتم به ولا يحاول إيجاد حلول له ، كل ما يفعله أنه يضحك بشدة علي أحوال الناس ومصائبهم ، حتي عرفه الناس بالضحك والقهقهة ،

وكلا الرجلين صارا أضحوكةً بين الناس ، لأنهم فقدوا مرونة التعامل مع ما يمرون به ، وجهلوا كيف تعالج الأمور ،
ما أشبهنا اليوم بهؤلاء الفلاسفة ، بعضنا اختار ان يكون هيرقليطس المكتئب ، فتعود الإستسلام وألف البكاء ،
وبعضنا اختار أن يكون ديمقريطس ، ذلك الهارب من المواجهة عن طريق الضحك والتسلية والفكاهة ،
والحق أن كلا النموذجين لا يحتذى بهما ، لأنهما أنصاف حلول وأشباه حقائق ، فما هو إلا مجرد وقت تهرب فيه وتتعري من الحقائق لتجد بعد ذلك أن جميع المشكلات كما هي لم تتغير ، بل تتغذي وتكبر ، لأنك تركتها ولم تستأصل جذورها ..

والحل هو ما كنت أعتقده غريبًا في نفسي ، أن يوازن الإنسان ما بين الضحك والجد ، لا مشكلة أن تستعير البسمة في لحظاتك الصعبة ، ولو علي سبيل مجاهدة النفس ،
لا مانع أن تضحك مرةً ثم تجلس بمفردك لتفكر مرةً أخري ،
دون أن يصبح الضحك هروبًا أو الجلوس بمفردك اكتئابًا ،
لابد أن نتعامل مع المشكلات علي طبيعتها ولا نعطيها أكبر مما تستحق ، وأن نبقي علي طبيعتنا نحن الآخرون ،
كن جادًا ولا تكن مكتئبًا ، كن مرحًا ولا تكن هاربًا ،
فما بين الصمود والهروب خيط رفيع لابد أن تنتبه لوجوده ، لأن الهروب هو الطريق إلي الموت ..

 التعليقات

 أخبار ذات صلة

[wysija_form id="1"]
إعلان خدماتي

جميع الحقوق محفوظة لجريدة البيان 2015

عدد زوار الموقع: 79654196
تصميم وتطوير